جيزيم الفت
مع ساعات الفجر الأولى ليوم الأحد 25 آب/ أغسطس 2024، بدأ جيش الاحتلال بشن هجوم واسع أعلن أنه “استباقي”، بعد رصد استعدادات من “حزب الله” اللبناني لتوجيه ضربة واسعة لأهداف إسرائيلية، وبفارق زمني بسيط أطلق “حزب الله” رشقات متعددة من الصواريخ والمسيرات من الأراضي اللبنانية في اتجاه أهداف أعلن فيما بعد عن جزء منها بقائمة من القواعد العسكرية الإسرائيلية، فيما ترك الإعلانَ عن الهدف الرئيسي للهجوم الموصوف بأنه “منشأة استراتيجية” في عمق الأراضي المحتلة لكلمة أمينه العام، حسن نصر الله.
أدخلت ملابسات “الهجوم الاستباقي” ومدى الفعالية التي اتسم بها رد “حزب الله”، الذي أعلن انتهاء المرحلة الأولى من الرد على اغتيال أحد أهم قادته العسكريين، فؤاد شكر، “معادلة النقاط” في موازين المواجهة بين الحزب اللبناني و”إسرائيل” في دوامة كبيرة، على إثر تغيير عدد من محددات الردع واختراق قواعد الاشتباك منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وهو ما يلقي بظلاله على العديد من المتغيرات في المنطقة، بما فيها مجريات الحرب في قطاع غزة.
أكد جيش الاحتلال أن ضربته الاستباقية حُدِّد موعدها ارتباطًا بجهود استخباراتية ومعلومات من الميدان والرصد لمنظومات الإنذار المبكر، إضافة إلى التعاون الاستخباراتي مع الأجهزة الحليفة، وبمشاركة فعّالة من الولايات المتحدة التي كان رئيس أركان جيوشها على تنسيق ساخن مع قيادة جيش الاحتلال خلال وجوده في الأردن، التي حطَّ فيها قبيل الهجوم الاستباقي لجيش الاحتلال لتنسيق الجهود، وضمان أقصى فعالية ممكنة في التصدي لأي تبعات لهذا الهجوم.
صدرت معلومات متضاربة، وفي أجزاء متعددة منها كانت مضخمة جدًّا، في الإعلانات المتتابعة للناطق باسم جيش الاحتلال ووسائل الإعلام العبرية، حول عدد المنصات التي اُستهدفت، وحجم الصواريخ التي جرى القضاء عليها في الضربة الاستباقية، إذ أعلن جيش الاحتلال أن نحو 100 طائرة مقاتلة قصفت ودمّرت الآلاف من قاذفات الصواريخ التابعة لـ”حزب الله”، والتي كانت موجهة لإطلاق النار فورًا نحو شمال ووسط الأراضي الفلسطينية المحتلة، مضيفًا أن “حزب الله” كان يخطط لـ”هجوم أكبر” تم “إحباط جزء كبير منه”.
ونقلت الإذاعة الإسرائيلية عن مسؤولين عسكريين قولهم إن “حزب الله” خطط لشنّ هجوم بمئات الصواريخ والقذائف تجاه وسط البلاد الساعة الخامسة فجرًا، لكن ما وصفوها بـ”الضربات الاستباقية” للقوات الجوية بدأت في الرابعة والنصف، عبر نحو 100 طائرة مقاتلة تمكنت من إحباط التهديد في غضون دقائق، ومنعت الهجوم الواسع النطاق، حسب قولهم.
من جانبه، وخلال اختتامه لاجتماع المجلس الوزاري المصغّر للشؤون والسياسة الأمنية، قال رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو: “في ساعات الفجر الأولى، رصدنا استعدادات من حزب الله لمهاجمة إسرائيل”، وأضاف أنه بالتشاور مع وزير الأمن، يوآف غالانت، ورئيس الأركان، هرتسي هليفي، أصدروا “تعليمات للجيش بالتحرك بشكل استباقي لإزالة التهديد”.
وأضاف أن الجيش “دمر آلاف الصواريخ التي كانت موجهة نحو شمالي البلاد، كما يحبط تهديدات أخرى عديدة ويعمل بقوة كبيرة، سواء في الدفاع أو الهجوم”، وختم بيانه المصور بالتشديد: “نحن مصمّمون على فعل كل شيء لحماية دولتنا، وإعادة سكان الشمال بأمان إلى منازلهم، والالتزام بمبدأ بسيط: من يعتدي علينا سنردّ عليه”.
لم يكن يبدو الحديث الإسرائيلي عن “آلاف الصواريخ” وآلاف المنصات منطقيًا ومتوازنًا مع “الحجم المفترض” للردّ الذي ينوي “حزب الله” تنفيذه، إذ إن غالبية التقديرات وحتى تصريحات الحزب اللبناني كانت تشير إلى رد واضح وصريح لكنه محسوب في الوقت ذاته، وهو ما لا ينسجم مع الحديث الإسرائيلي عن آلاف الصواريخ، والتي تعني “لو كان الرقم صحيحًا” فإن الحزب قد اتخذ قرارًا بفتح حرب واسعة، وليس توجيه ضربة محدودة ردًّا على اغتيال القيادي فؤاد شكر.
ردّ “حزب الله” وفعاليته
متجاهلًا الإعلان الإسرائيلي عن الهجوم الاستباقي ودوي الضربات والغارات الكبرى التي نّفذها طيران الاحتلال بشكل متزامن، بعد مدة وجيزة أعلن “حزب الله” أنه شنّ هجومًا جويًا بعدد كبير من المسيّرات والصواريخ نحو العمق الإسرائيلي، وأضاف أن الهجوم الجوي بدأ في اتجاه هدف عسكري إسرائيلي نوعي سيُعلن عنه لاحقًا، وقال إن هذا الهجوم يأتي في إطار “الرد الأولي على استشهاد القائد فؤاد شكر”.
وفي التفاصيل، قال الحزب إن عمليته الجديدة بدأت “بهجوم جوي بعدد كبير من المسيّرات نحو العمق الصهيوني، واتجاه هدف عسكري إسرائيلي نوعي”، وأكد أنه وبالتزامن مع ذلك استهدف “عددًا من مواقع وثكنات العدو ومنصات القبة الحديدية في شمال فلسطين المحتلة بعدد كبير من الصواريخ”، وأن عملياته ستأخذ وقتًا.
وفي بيان ثانٍ له منذ بدء هجومه، أعلن الحزب أن “عدد الصواريخ التي أُطلقت حتى الآن تجاوز 320 صاروخًا تجاه مواقع العدو”، وقال إن هجماته طالت 11 قاعدة وثكنة عسكرية “تم استهدافها وإصابتها” في شمالي الكيان والجولان السوري المحتل، معلنًا الانتهاء من “المرحلة الأولى” من الردّ على اغتيال شكر.
في معرض كلمته التي مثلت إعلانًا واضحًا من الحزب اللبناني باكتمال ردّه على اغتيال القيادي فؤاد شكر، أعلن الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، أن الرد -الذي أطلق عليه اسم “عملية يوم الأربعين” لتزامنه مع أربعينية الإمام الحسين- استهدف قاعدة غليلوت للاستخبارات العسكرية وتضمّ الوحدة 8200، وتبعد عن حدود تل أبيب 1500 متر، وهو الهدف النوعي الرئيسي، إلى جانب عدد من المواقع العسكرية والثكنات في الجليل والجولان.
وفي استعراضه لتكتيك الإطلاق الذي اعتمده الحزب، أعلن نصر الله أن المقاومة اللبنانية أطلقت مئات صواريخ الكاتيوشا لإشغال القبة الحديدية الإسرائيلية لعدة دقائق حتى تعبر المسيّرات، مشيرًا إلى أن معلومات الحزب تفيد بأن عددًا من المسيّرات أصابت أهدافها “لكن العدو يتكتم”.
مضيفًا أن الإصابات في نهاريا وعكا وغيرهما “لو كانت حدثت، فإنما تمّت بسبب الصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية”، في إشارة إلى دقة المواقع المستهدفة بوصفها أهدافًا عسكرية، وليس هناك بوادر أن الحزب استهدف أهدافًا ذات طبيعة “مدنية”.
وردَّ نصر الله على الادّعاءات الإسرائيلية بإعلان أن الحزب أخلى قبل فترة جميع الأودية من الصواريخ الدقيقة والباليستية، كما نفى ما أعلنته “إسرائيل” بشأن ضرب صواريخ باليستية للحزب كانت معدّة لاستهداف تل أبيب.
وأضاف أن “إسرائيل” تتحدث عن مئات الغارات، وهي لم تصب إلا منصتين لإطلاق الصواريخ، موضحًا أن “إسرائيل” أحسّت بحركة عناصر الحزب قبل نصف ساعة من العملية، فبدأت شنّ غاراتها ولم يكن لديها معلومات استخبارية كما تزعم.
وأكد أن عملية الحزب أُنجزت بدقة “رغم كل الظروف الصعبة”، و”تمّت بنجاح”. وفي إطار إجلاء ما ورد في بيان الحزب بوصف ما جرى “المرحلة الأولى من الرد”، أكد نصر الله أن لبنان في المرحلة الحالية “يمكنه أن يرتاح، والعدو أعلن أن ما جرى اليوم انتهى”، مؤكدًا في الوقت نفسه أن “أي آمال بإسكات جبهات الإسناد سيفشل وسنبقى ندعم غزة”.
فيما أبقى نصر الله بابًا صغيرًا مفتوحًا حول خطوات أخرى قد تستجدّ، بإعلان أن “ردنا اليوم أولي، وإذا كانت نتيجة العملية غير كافية بالنسبة لنا سنقرر ما سنفعل لاحقًا”.
رغم استمرار “حزب الله” في تنفيذ رده والامتناع عن إظهار ارتباك ميداني، نظرًا إلى الضربات الإسرائيلية الكبيرة التي نُفّذت قبيل تنفيذ الرد، فإن الميدان قد أوضح أيضًا أن الهجمة التي نفّذها الحزب لم تكن على قدر الحدث ولا التهديدات، ولم تنسجم مع المحددات التي سبق وأن أوضحها أمينه العام بُعيد استشهاد شكر، إذ أوضح أن الاعتداء الإسرائيلي مسَّ العاصمة اللبنانية، وقد نتج عنه استشهاد مدنيين لبنانيين، إضافةً إلى كونه عملية اغتيال لقيادي في الحزب، وهي محددات ستسري على رد الحزب الذي تعهّد بأن يكون واضحًا ومؤثرًا.
من الواضح أن رد الحزب الذي طال كثيرًا ارتكز إلى فكرة محددة، وهي تثبيت مبدأ أن تل أبيب ليست محصنة ضد الضربات في إطار الرد على استهداف الضاحية، دون أن يضطر الحزب إلى تحمل كلفة توجيه ضربة كبيرة ومحققة الإصابة لتل أبيب، ما سيجلب ردًّا إسرائيليًا كبيرًا.
وبالتالي إن الاستهداف -ورغم عملية التعمية الكبيرة للقبة الحديدية والدفاعات الجوية عبر الصواريخ قصيرة المدى- كانت فرص نجاحه محدودة في ضوء الاستعداد الإسرائيلي الكبير، وهو ما يعيه الحزب تمامًا قبل أن ينفّذ ضربته التي هدفت إلى إغلاق الدائرة المرتبطة بالردّ على اغتيال شكر، والعودة إلى قواعد الاشتباك السابقة ضمن معادلات الاشتباك الإسنادي المستمر والمرتبط بمجريات الحرب في قطاع غزة.
استخلاصات رئيسية
في إطار قراءة كلًّا من الإعلانات الإسرائيلية وإعلانات “حزب الله” اللبناني والمؤشرات الميدانية التي رافقت ساعات فجر يوم 25 آب/ أغسطس، لا بدَّ من التعريج على الاستخلاصات التالية:
الإطباق الاستخباراتي الإسرائيلي: عمد الاحتلال إلى إظهار نماذج متعددة حول حجم الإطباق الاستخباراتي للاحتلال على مكامن “حزب الله”، وذلك عبر مجموعة من الاستهدافات التي كان أكثر وضوحًا فيها النجاح في اغتيال عدد هام من أبرز قادة الحزب العسكريين، كان آخرهم فؤاد شكر المسؤول عن المشاريع الاستراتيجية في الحزب، فيما كانت النماذج الأخرى مرتبطة بتوجيه الاحتلال ضربات لأماكن ادّعى أنها مخازن استراتيجية للسلاح والصواريخ للحزب.
إضافةً إلى نجاح الاحتلال في إصدار تحذيرات لمستوطنات شمالي فلسطين المحتلة قبل دقائق من استهدافها برشقات صاروخية من “حزب الله”، وهو ما هدف عبره الاحتلال إلى استعراض حجم قدراته الاستخباراتية وفعالية منظومات التتبُّع والإنذار المبكر، ويهدف أيضًا إلى إرباك معادلات الحزب الأمنية، وبالتالي إرباك أية خطط مستقبلية لتوسيع المواجهة أو زيادة زخمها.
نجاح الاستراتيجية الأمريكية في تفكيك الرد المشترك: كان واضحًا، في سياق شرح أمين عام “حزب الله” لأسباب تأخر الرد، والحديث عن منح فرصة لجولة التفاوض لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، والحديث أيضًا عن تشاور “المحور” للردّ الجماعي أو المنفرد على الاعتداءات الإسرائيلية، أن الاستراتيجية الأمريكية التي هدفت إلى تفكيك الفعالية الجماعية لقوى محور المقاومة، وإمكانية شنّ هجوم جماعي واسع على “إسرائيل” لهذه القوى، عبر مسارات متعددة كان أهمها إطلاق جولة تفاوض أحيطت ببروباغاندا كبيرة حول كونها جولة “الفرصة الأخيرة”، لإيهام الأطراف المتعددة أن ثمة مسارًا حقيقيًا يمكن أن يفضي إلى حل، وعلى مسار آخر كانت الرسائل لكل طرف من أطراف المحور شملت الترهيب والترغيب لإرباك الحسابات.
المبالغة الإسرائيلية: كان واضحًا سعي الاحتلال إلى المبالغة والتضخيم الكبير جدًّا لما استهدف من منصات وقدرات لـ”حزب الله”، وحتى الادّعاء لشكل “الهجوم المفترض” للحزب الذي أُحبط، إذ إن سياق المعلومات التي أعلنتها مصادر عبرية حول ما أُجهض في الضربة الاستباقية، لا ينسجم مطلقًا مع طبيعة ردود “حزب الله” ولا استراتيجيته الحالية في الاشتباك والمواجهة.
والحديث عن آلاف المنصات يعني في مضمونه الحديث عن الإضرار الاستراتيجي بقدرات الحزب الصاروخية، وهذا منافٍ لمؤشرات الميدان، بما فيها خسائر الحزب البشرية بفعل الضربة الاستباقية، إذ يتبنى الحزب سياسة الإعلان عن خسائره البشرية بفعل الضربات الإسرائيلية بوضوح، وينعي مقاتليه الذين يقضون في الميدان.
تهدف هذه المبالغة الإسرائيلية في جوهرها إلى إعادة الهيبة لقدرتها على تحييد قدرات خصومها، وفعالية منظومات الإنذار المبكر وحرية الحركة لجيش الاحتلال في إزالة التهديدات، ومن جانب آخر هي تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية لرئيس وزراء الاحتلال الذي يسعى إلى تحسين أسهمه الانتخابية وتعزيزه حضوره وفرصه، ومن جانب آخر يدعم هذا التضخيم الموقف التفاوضي الإسرائيلي، بإظهار قدرة الاحتلال على التعامل بأريحية مع الجبهات الضاغطة.
الفعالية الأمريكية الكبيرة: كان واضحًا -ورغم العلاقة الملتبسة بين إدارة جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو- أن الالتزام الأمريكي بأمن “إسرائيل” التزام مطلق يمكن أن تمضي الولايات المتحدة في سبيله إلى أقصى الحدود، واستخدام كل أدوات الردع العسكري من جانب، والتعاون الاستخباراتي من جانب آخر.
وقد أشير إلى ذلك بوضوح بوصول رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، سي كيو براون، إلى المنطقة في زيارة لم تكن معلنة أو مجدولة، وهو ما يمكن ربطه بوضوح بالمعلومات الاستخباراتية حول نوايا “حزب الله” اللبناني الهجومية، وتقدير إمكانية تدحرج مجريات الأمور لمواجهة أوسع.
فيما يعكس مكوث براون في الأردن الاستعدادية للإشراف المباشر على الجهود الحربية اللازمة للدفاع عن “إسرائيل” في حالة التطور الدراماتيكي للأحداث، وهو الدور الذي أشادت به “إسرائيل” إشادة واضحة وأكده المتحدثون العسكريون، فيما خلق الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة عامل ردع كبير ومعزز لسيناريوهات الانخراط الأمريكي المباشر في أية حرب إقليمية قد تندلع في الشرق الأوسط، وإشارة جديدة إلى حجم التقدم الحاصل في مشروع الحلف الدفاعي الأمريكي المشترك في المنطقة.
التزام “حزب الله” بمحددات الاشتباك المنضبط: صمّم “حزب الله” اللبناني ردّه بشكل يضمن بقاءه مقيدًا ضمن معادلات الاشتباك المنضبط في الأهداف والجغرافيا، الذي لا يدفع الاحتلال إلى رفع وتيرة استهدافاته في العمق اللبناني أو المسّ بالبنية التحتية في لبنان (وفقًا لتهديدات قادة الاحتلال).
وهو ما عبّر عنه بوضوح أمين عام الحزب حسن نصر الله، في معرض حديثه عن تجاوز الحزب لمعادلة المدنيين مقابل المدنيين في إطار الاشتباك وردود الحزب، وحرصه على تأكيد أن الهدف الذي استهدفه الحزب كان هدفًا عسكريًا، وأن أي سقوط آخر ناتج عن صواريخ التصدي الإسرائيلية، وهو ما يوحي بوضوح بانعدام رغبة الحزب في تجاوز هذا المحدد، في إطار محاولة حصر الاستهدافات الإسرائيلية لأهداف عسكرية للحزب فقط، وأملًا في تجاوز مسبّبات توسع المواجهة والاشتباك.
اختلاف حسابات قوى محور المقاومة: من الواضح أن حسابات قوى محور المقاومة تختلف فيما بينها، ارتباطًا بالمعادلات الداخلية لكل مكون من مكونات المحور وفي مقدمتها الحسابات الإيرانية الخاضعة لميزان دقيق من حسابات الربح والخسارة، وتعزيز احتمالات كون الهجمات الإسرائيلية الأخيرة تهدف في جوهرها إلى استدراج إيران إلى مواجهة إقليمية تنخرط فيها الولايات المتحدة في الاشتباك المباشر، وتوجيه ضربة لإيران طال الانتظار الإسرائيلي لها كثيرًا.
فيما تعقّد الحسابات اللبنانية الداخلية قدرة “حزب الله” اللبناني على خوض أوسع في معادلات الاشتباك، إذ إن خشية الحزب من الوصول إلى حرب مفتوحة وثمنها المتوقع على لبنان تعقّد كل الخيارات الهجومية للحزب، خصوصًا في ظل قراءة الاندفاعة الإسرائيلية وعدّ العديد من المكونات اللبنانية أن سبب هذه المعركة “غير لبناني”، وبالتالي ليس من المنطقي دفع ثمن هذه المواجهة. وتمسّ هذه الحسابات بوضوح جوهر معادلة “وحدة الجبهات”، وتعطل الكثير من مفاعيلها الردعية التي سبق وأن راكمتها.
الخداع الاستخباراتي: لا يمكن الحسم بصدقية الراوية الإسرائيلية حول نجاح الهجوم الاستباقي، فيما يشكّل إعلان الحزب أن هذا الهجوم لم ينجح، وإيقاع الاحتلال في فخ استخباراتي جرى خلاله تظليل منظومات الرصد الإسرائيلي بعشرات الأهداف الوهمية، وهو ما يعززه عدم إعلان الحزب عن أية خسائر بشرية من مقاتليه في الهجوم الاستباقي الإسرائيلي.
وقد سبق واستخدم الحزب هذا الأسلوب ارتباطًا بتشخيصه لوجود ثغرات أمنية أو قدرة إسرائيلية على رصد العديد من تحركاته الميدانية، إذ نفّذ الحزب مناورة كبيرة مشابهة في إطار تمويه منصات إطلاق صواريخه النوعية إبّان حرب تموز 2006، عبر إنشاء العديد من المنصات الوهمية التي احتلت قائمة بنك الأهداف الإسرائيلي، ورغم النجاح الإسرائيلي في التقاط موعد الهجوم، إلا أن هجومه الاستباقي لم ينجح في تعطيل منصات الإطلاق الرئيسية للحزب، بما فيها المسيّرات الموجهة للهدف الرئيسي.
معادلات النقاط والردع
وفقًا لمعادلات النقاط التي سبق وأشار إليها الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني حسن نصر الله، في إطار شرحه للمعادلات التراكمية في إطار المواجهة المستمرة مع “إسرائيل” في المنطقة، فإن هذه المعادلة قد تعرّضت لعواصف متعددة قلبت العديد من النتائج، إذ إن الحزب اللبناني قد نجح لسنوات عبر سياسة تراكمية في تثبيت العديد من معادلات الاشتباك بينه وبين الاحتلال الإسرائيلي.
وقد نجحت هذه المعادلات في تقييد أيدي الاحتلال لسنوات متعددة، وحتى خلال الأشهر الأولى من بدء الحزب في اشتباكه الإسنادي لقطاع غزة قيّدت الوتيرة الهجومية للاحتلال، إلا أن هذه المعادلة لم تعد سائدة مع مرور الوقت، إذ إن الاحتلال عمد إلى إدخال تغييرات تدريجية على معادلات الاشتباك وحجم الضربات التي يوجّهها إلى “حزب الله”.
فحص الاحتلال المدى الذي يمكن أن يصل إليه الحزب اللبناني في الرد على تجاوز قواعد الاشتباك، وقد أخضع هذه المعادلة إلى الاختبار الأول إبّان اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية، وردّ الحزب باستهداف هدف عسكري شمالي فلسطين المحتلة، ما شجّع الاحتلال على رفع وتيرة المواجهة واستهداف القائدَين الميدانيَّين البارَزين أبو طالب وأبو نعمة، اللذين يشكّلان ضلعَين في مثلث القيادة الميدانية الرئيسي لـ”حزب الله” اللبناني.
والتزم الحزب أيضًا بالردّ وفق المحددات السابقة ذاتها، بإبقاء الاشتباك في مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة واستهداف الأهداف العسكرية، والأمر سواء في تعامل الحزب مع سقوط مدنيين في الغارات الإسرائيلية، وتوسع المدى الجغرافي للغارات التي طالت أهدافًا في مدينة بعلبك في أكثر من مرة.
أدرك الاحتلال حجم التقييد الذي يفرضه “حزب الله” على نفسه ضمن قواعد الاشتباك، وهو ما أدى إلى خلق تراجع نوعي في قدرة الحزب على الاحتفاظ بمعادلات الردع، وما شجّع الاحتلال على رفع سقف التحدي بتنفيذ عملية الاغتيال التي طالت القيادي فؤاد شكر في العاصمة اللبنانية بيروت.
ارتباطًا بحسم الاحتلال تقديره لحجم تقيُّد “حزب الله” بمحددات منع الانزلاق إلى حرب واسعة مع “إسرائيل”، قرر الاحتلال رفع التكلفة النوعية لاستمرار الحزب في جبهته الإسنادية لقطاع غزة، وتوجيه ضربات أكبر إلى بنك الأهداف الذي راكمه عبر سنوات من استراتيجية “المعركة بين الحروب”، التي ينشط فيها جيش الاحتلال في مواجهة تطور البنية التحتية للحزب.
وهي استراتيجية بقيت مقيَّدة داخل الأراضي اللبنانية طوال سنوات، والآن بات بالإمكان توجيه ضربات نوعية تسهم في تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية والإضرار المباشر بقدرات الحزب ومقدراته القيادية واللوجستية، وهو ما أكده نتنياهو بإعلانه أن ما حصل “ليس نهاية الأمر” في إطار تثبيت “إسرائيل” معادلات جديدة.
في معادلات النقاط، نجح نتنياهو خلال الأشهر الأخيرة في اكتساب نقاط نوعية في إطار إعادة الاعتبار لقدرة “إسرائيل” على الضرب أينما شاءت ووقتما شاءت، دون الخشية من ردود نوعية، وهو ترميم كبير لمنظومة الردع التي هشّمتها بشكل كبير عملية السابع من أكتوبر، فيما سجّل الاحتلال أيضًا نقاطًا جديدة مرتبطة باستعراض فعالية منظومات الإنذار المبكر والقدرات الاستخباراتية الهائلة، والقدرة على العودة إلى المبادرة وتنفيذ هجمات استباقية وتحييد قدراته خصومها.
في المقابل، فإن معادلات الردع التي راكمتها قوى محور المقاومة باتت في معرض التهديد بشكل كبير، فيما يشكّل الاستمرار وفق النسق الحالي ضمن الجبهات الإسنادية دون تدشين مستويات ردعية لتجاوز الاحتلال، مدخلًا إلى نزيف أكثر نوعية من قدرات هذه المكونات، وتخفيض لحجم الضغط الذي يشكّله استمرار هذه على الاحتلال، الذي بات أكثر جرأة على مواجهتها وتوجيه ضرباته له، خصوصًا مع الاستبعاد المستمر لإمكانية نشوب حرب إقليمية كان الخوف منها يشكّل عاملًا ضاغطًا على العديد من اللاعبين الإقليميين والولايات المتحدة، وهو ما يضغط موقف المقاومة الفلسطينية وبشكل خاص في المفاوضات، إذ كان يشكل التخوف من اندلاع الحرب الإقليمية عاملًا هامًّا في الضغط على الاحتلال للوصول إلى وقف إطلاق نار ينزع فتيل الانفجار من الشرق الأوسط.