ربى عياش
هل يتعامل النظام العالمي اليوم مع الأفراد بعدالة؟ لا، بل يعاني النظام السائد اليوم من خلل عميق. ومع التطرف في الأفكار، يصبح الواقع بائسًا وهشًا وفاسدًا، حيث يلقي التطرف في الرأسمالية بظلال فساده وجنوحه على المجتمعات. لا أؤمن بما يروجون له من مخاوف وتحذيرات بشأن “قلة الموارد”، فالمشكلة تكمن في سوء توزيع الموارد والفرص لا قلّتها.
في رواية جورج أورويل “1984”، يتساءل أحدهم: كيف يفرض إنسان سلطته على إنسان آخر يا ونستون؟ يفكر ونستون ثم يجيب: بأن يجعله يعاني.
ما يحدث من حولنا هو فن خلق الفوضى. بمعنى، حين تكون التحديات الاقتصادية متعاظمة وهناك خلل في الهيكلية، يتم تعزيز واقع مظلم من خلال خلق صراعات وحروب مستمرة تتم تغذيتها بتعظيم الكره والشعارات الرنانة المتعلقة بمفاهيم الشرف والوطنية والقومية والإثنية، ويتم بالتوازي إقناع العامة بمحدودية الفرص وعدم وجود عدالة في توزيع الموارد، فيصبح المشهد كالتالي: الإنسان يقاسي في محاولاته للصمود في الحياة ويتم إشغاله بالبحث عن منفذ لجمع قوت يومه، ويصبح الإنسان مستعدًا للتضحية بكل من حوله لنيل الفرصة. ويمنح كامل الولاء لمن يعطيه “الفتات” سواء كان حزبًا أو مسؤولًا أو إداريًا أو كاهنًا. ويصبح ولاء الإنسان بكل جشع وأنانية لنفسه ودائرته الصغيرة التي تشبهه في قوميته وإثنيته وطائفته، ومن تجمعه بهم مصالح مشتركة. وهذا يعني خلق المزيد من التفرقة والكره والغضب والسخط والجماعات المتصارعة.
من ينشغل طوال الوقت في محاولة بناء حياته وجمع قوته لن يفكر بالحرية والديمقراطية والدولة والدساتير والقوانين والإنسانية. في ظل واقع محدود ومظلم وفوضوي، يتم الترويج طوال الوقت عبر الشاشات الكبيرة والصغيرة لوهم الخيارات، ووهم الرفاهية. تسير في شوارع المدن، تجدها أشبه بـ”مول” كبير، ملئ بالإعلانات، ودعايات الاستهلاك يتم بثها طوال الوقت بهدف ربط الناس بحبال غليظة لإثبات وجودهم وظهورهم وحاجتهم للعيش والاستمرارية. وتتضاعف معاناة الأشخاص العاجزين عن توفير الأساسيات لأنفسهم، بسبب حاجتهم للحاق بالمركب وامتلاك المزيد من وسائل “الرفاهية”، هي في حقيقة الأمر مجرد وهم رفاهية.
إنهم يخلقون عالمًا مبنيًا على وهم الامتلاك، بينما أغلب ما يملكه الأفراد مرهون لدى البنوك، أموال لا يملكونها من الأساس. نظام اقتصادي يعمل بطريقة المقامرة، قادر على سرقة أموال الأفراد بين ليلة وضحاها دون تبرير ودون تعويض.
وكما يقول إريك هوفر: “الفكر الذي يأمر الناس بالصبر على الظلم دون رفضه، والقناعة بالفقر دون مكافحته، والرضا بالواقع دون محاولة تغييره، هو أفيون الشعوب”.
هنا يأتي دور رجال الدين، ودعاة الرعب، والمؤسسات الدينية التي طالما كانت جزءًا أساسيًا ومهمّا من النظام المشيّد، لبث خطابات قائمة على الاستكانة والقبول بواقع مظلم، وإيهام البشر بالجائزة الكبرى بسبب صبرهم على معاناتهم. والحقيقة أن الكون لا يكافئ أحدًا على معاناته، إن نتيجة المعاناة هي فقط معاناة. الإنسان عليه كسر الحلقات والظلمات وتغيير واقعه، لن تأتي كائنات فضائية أو وهمية لإنقاذ الإنسان من واقعه المشرذم، وخطابات قائمة على الكره والبغضاء وتعزيز الظلمات، وتغذية الصراعات والحروب، وتعزيز مجتمعات مُدمّرة، ودول أضحت ركاما منكوبا، ليتم أسر الأفراد في حلقات لعينة يبدو الهروب منها أشبه بمعجزة.
كيف يمكن البدء بإصلاح الخلل في النظام العالمي؟
اقتصاديًا، يجب فرض الضرائب على “أصحاب الدخل العالي” و”أصحاب الثروات”، ورفع الضرائب عن الفئات متوسطة أو قليلة الدخل. دخل الأفراد من المفترض أن يتوازن ويتماشى مع تكلفة المعيشة. أما أساسيات العيش فيجب أن توفرها الحكومات للأفراد بشكل مجاني أو شبه مجاني. في دولة منطقية يجب أن تعمل الحكومات لخدمة الأفراد وليس لاستعبادهم واستنزافهم. أما من يتم وضعه في مناصب اتخاذ القرار ومناصب عليا في مفاصل الدول والشركات هم موظفون وفقط، يجب أن تكون هناك رقابة على عملهم ومحاسبة. إن المناصب مسؤولية وليست فرصة لجمع الغنائم. المسؤول يجب ألاّ تتعاظم ثروته خلال فترة عمله. بالمقابل الأفراد الذين يشغلون وظائف بسيطة يجب ألاّ يكون دخلهم “فتات الفتات”، ويجب ألاّ يتم استعبادهم ونسف حقوقهم تمامًا، وألاّ يتم التعامل معهم وكأنهم أدوات أو أشياء. من الضروري البدء بردم الفجوة التي أصبحت بحجم “ثقب فضائي أسود” بين الأقلية التي تملك والغالبية التي تحاول الصمود في الحياة.
أما فكريًا، فيجب البدء بإسكات أصوات دعاة الرعب والتجهيل. المؤسسات الدينية دورها تربوي فكري قيمي في المجتمعات، ويجب أن تحتفظ بدورها هذا بالحفاظ على الجانب الروحي للإنسان وتقويمه والمساعدة في برمجة عقول الأفراد في المجتمعات على الرحمة والتقبل والاستقبال والحب والود.
وكما يقول جلال الدين الرومي: “غاية التديّن؛ السيطرة على النفس لا على الآخرين”.
يجب إعادة أصوات الحكمة والعقل إلى المشهد، وإعادة تنقيح المناهج التعليمية، وإعادة الفكر والمعرفة إلى حياة الناس، وإدخال الفلسفة إلى المناهج التعليمية، وأن نبدأ بإحلال برمجة عقلية متطورة قائمة على التحليل والحوار والمجادلة والتفكّر في عقول الأجيال الجديدة، لا الانغلاق الفكري والتسطيح المعرفي والتجهيل.
يجب العودة لعصف ذهني جمعي بين المفكرين والمدارس الفكرية المختلفة للبدء بصياغة مفاهيم جديدة حول الدولة والمواطنة والديمقراطية والحقوق والحريات والإنسانية.
أيضًا، يجب إدخال إصلاحات على الإعلام ودوره، بأن يكف عن استخدام نظرية كهف أفلاطون في غسل عقول العامة وقيادتهم وتجهيلهم، أيّا ما كانت روايتهم، وأقصد كل الأطراف، بكل الروايات المسرودة. بمعنى أن يتراءى للناس أن ما يعرفونه ويرونه هو الحقيقة، لكن الأفراد هم أشبه بسكان الكهف الذين لا يرون من الحياة خارج الكهف سوى بعض الظلال التي تلقيها النار على الجدار المواجه لهم، وهو ما يشكّل وعيهم وأفكارهم عن الحياة وعن أنفسهم.
جل ما تفعله السلطة الرابعة هو خلق المزيد من النائمين والمشتتين، المعطلة بصيرتهم، المشوشة أفكارهم، المغلوطة رؤيتهم. كل يرى المشهد من زاوية صغيرة، لا أحد يحاول التحليق والنظر بعين حورس. الإعلام يخلق المزيد من الغاضبين على واقعهم وأنفسهم، ويغذي الصراعات القائمة، يخلق مزيدًا من الخوف والتهديد، ويشتت الناس عن سلامهم وأهدافهم.
الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، لذلك فإن العمل على إحلال واقع متوازن ومتجذر وحقيقي ماديًا، والكف عن الاستثمار في الصراعات والحروب من قبل النخبة السياسية والاقتصادية، إضافة إلى العمل على إثراء فكر المجتمعات وبنيتها القيمية والثقافية ووجود تعددية حزبية وفكرية ووجود المزيد من الحريات واحترام الحدود والتعايش، كل هذا يساعد على إيجاد عالم أفضل نسبيًا من الذي نراه حاليًا في الكثير من مناطق كوكبنا، خاصة في الشرق الأوسط الملتهب.