إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة ومع السعودية باعتبارها راعية الحرمين الشريفين وصاحبة المكانة الدينية والاقتصادية والسياسية واللوجستية، تختلف عمّا كانت عليه إثر الحرب الباردة وعمّا هي عليه اليوم، مع صعود مكانة السعودية اقتصاديًا وسياسيًا بشكل ملحوظ يفوق نظراءها في المنطقة، إيران وإسرائيل، وكيلا الولايات المتحدة اللذان يتصارعان على النفوذ.. لكن تبقى إسرائيل الذراع الأساسية للولايات المتحدة.
سبق للولايات المتحدة أن حاولت تقليص النفوذ السعودي لصالح إيران خلال حكومة باراك أوباما، وذلك لإقناع طهران بالتوقف عن تطوير السلاح النووي. وتغاضى جو بايدن عن محاصرة إيران للسعودية عبر أذرعها بحجة محاربة داعش. لكن ما حدث بعد ذلك هو العكس؛ نمت السعودية اقتصاديًا وسياسيًا وفرضت على الولايات المتحدة تغيير إستراتيجيتها، خصوصًا بعد أن نجحت المملكة في إدخال الصين إلى المنطقة كعامل متغير جديد أربك الولايات المتحدة، بعد رعاية الصين للتهدئة بين السعودية وإيران، مما جعل واشنطن تغير إستراتيجيتها وتتبنى الممر الهندي – الأوروبي عبر السعودية. وهو ما فرض تغييرًا في خريطة المنطقة يقضي بضرورة تفكيك أو إضعاف محور المقاومة، خاصة في سوريا ولبنان وغزة.
السعودية تدرك حقيقة العقيدة العسكرية الأميركية القائمة على تغذية النزاعات في منطقة الشرق الأوسط. لكن، بعد التغييرين اللذين أدخلتهما السعودية لتغيير العقيدة العسكرية الأميركية المحكومة إستراتيجيًا، وهما أولا، إدخال الصين لتكون طرفًا في نزاعات المنطقة، وثانيا، تبني رؤية شاملة يشارك فيها الجميع، وهو ما دفع الولايات المتحدة للتخلص من عقيدة أوباما القائمة على ترك إيران تتمدد في المنطقة على حساب السعودية، وأن تشارك السعودية الولايات المتحدة في رسم خريطة جديدة للمنطقة لا تنفصل عن أوروبا وأفريقيا، خاصة أن السعودية تقود محور الاعتدال، وتؤكد على حل النزاعات بالحوار والتفاوض، وهو ما ترفضه إيران ومحورها لأنه يفقدها مشروعها، ويمهد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة لتحقيق المشروع السعودي الجديد.
التدخل الإيراني حقق معادلة صفرية لم تنعكس على القضية الفلسطينية بل أدى فقط إلى تحقيق مشروعها لتتجه ساعية إلى إفساد مفاوضات إقامة دولة فلسطينية، وذلك بإعطاء أوامر بتنفيذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر. ثم جاء اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية، بهدف وقف المفاوضات.
معروف أنّ هنية على خلاف مع السنوار، وتم إقصاؤه من الحركة عام 2017 واتهمه السنوار بالتخاذل وتغليب الحلول السياسية والسير مع الضغوط الإقليمية لكنه لم يتمكن من الخروج من العباءة الإيرانية، وهذا يعني أن إسرائيل ليس لديها أيّ رغبة في الوصول إلى تفاهمات أعلنها الرئيس بايدن، وأن اغتيال إسرائيل لهنية في هذا التوقيت لن يفيد في إجراء مفاوضات.
تورم قوة إيران، وعدم قدرتها على الرد المباشر يتوافق مع خطابها على المنابر. ورغم أن أصابع طهران على الزناد، ويمكن أن تفجّر المنطقة في أيّ لحظة، إلا أن بنيامين نتنياهو يدرك أن المنطقة إذا تفجرت فالولايات المتحدة لن تتخلى عن إسرائيل، وسيكون في مأمن، لذلك يصر على تغيير الوضع في غزة وفي لبنان وفي الداخل الإيراني، رغم إعلان الولايات المتحدة الدائم أنها لن تنجرّ إلى جحيم إسرائيل.
الجميع يتجه إلى الدولة الفاعلة في المنطقة، وهي السعودية، لممارسة دور في التهدئة وإقناع إيران بوقف التصعيد. لكن المشكلة أن نتنياهو يستفز الجميع ويقوم باغتيالات بالجملة ويرسل رسالة لإيران ولجميع أذرعها يعلمهم أنهم مخترقون، وهي رسالة موجهة أيضًا للعرب بقيادة السعودية التي تعمل جاهدة على وقف الحرب في غزة، وقام وزير خارجيتها بزيارة 23 دولة خلال 25 يومًا، ضمن جهود مضنية تبذلها السعودية لوقف الحرب وتصر على حسم النزاعات والخلافات عبر المفاوضات والحوار السلمي.
حتى داخل إسرائيل، توقف الحديث عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بينما يستمر الإصرار السعودي على ذلك، وتضعه الرياض شرطا إذا أرادت إسرائيل إقامة علاقة طبيعية مع السعودية، والاندماج في المنطقة وفق ضمانات دولية وإقليمية.
ونقلت الإيكونوميست عن مصادر مقربة في حماس إثر اغتيال هنية، أن قادة في الحركة اعترفوا بأن 7 أكتوبر كان خطأ في التقدير، وأن السنوار لم يحسب جيدًا تبعات الرد الإسرائيلي، وهو ما يعني أن الدور الإقليمي الإيراني سينتهي، وسيعود الجميع إلى المظلة السعودية لإدارة الأزمة بين إسرائيل والفلسطينيين.
لا الولايات المتحدة ولا السعودية ترغبان في رؤية التصعيد في المنطقة على غرار ما حدث في 13 أبريل 2024، عندما قامت إيران بإطلاق 300 صاروخ ردًا على استهداف إسرائيل السفارة الإيرانية في دمشق، وهو ما دفع الولايات المتحدة لإرسال حاملة الطائرات روزفلت التي دخلت مضيق هرمز قبالة إيران، لتذكر إيران بعملية فرس النبي في 18 أبريل 1988، عندما شنت القوات الأميركية داخل المياه الإقليمية الإيرانية هجومًا ثأريا لتلغيم إيران الخليج العربي أثناء الحرب الإيرانية – العراقية، وإصابة سفينة حربية أميركية، دمر خلالها نصف الأسطول البحري الإيرانية العملاتي في يوم واحد، وأعلنت الخارجية الأميركية أن من يملك قرار الانسحاب من العراق أو البقاء فيه هو الولايات المتحدة، وأن لا علاقة للحكومة العراقية بذلك.