الرئيسية / أخبار / الصين تضع العربة أمام الحصان الفلسطيني

الصين تضع العربة أمام الحصان الفلسطيني

عادت القضية الفلسطينية أداة لمن يريد أن يضع بصمته في منطقة الشرق الأوسط، فالأضواء التي سلطت عليها بعد عملية طوفان الأقصى واندلاع الحرب على قطاع غزة، شجّعت بعض القوى الكبرى على الاهتمام بها كأحد المحددات الرئيسية للهدوء والأمن والاستقرار، أو التوتر والصراع والحرب، ولها مداخل مختلفة، أقلها صعوبة مدخل المصالحة بين القوى الفلسطينية، والذي يراه آخرون من أصعبها.

دخلت الصين من باب المصالحة مؤخرا وهي تعتقد أنه الأسهل والأوفر حظا لتهيئة الأجواء أمام مقاربتها السياسية المؤجلة، حيث بذلت جهودا اقتصادية السنوات الماضية لتكون رقما تجاريا مهما في المنطقة ونجحت في تعظيم علاقاتها في هذا المجال، ولم تشعر بالارتياح طالما أن دورها السياسي غير مؤثر في التفاعلات الإقليمية.

رعت بكين لقاء بين الفصائل الفلسطينية قبل أيام بغرض تحقيق مصالحة استعراضية، وقيل إنها توصلت إلى تفاهمات حول خطوط عريضة بين نحو 14 فصيلا وجبهة وحركة فلسطينية، أبرزها فتح وحماس، ولم يتفاءل العارفون بما جرى في اجتماعات سابقة عقدت في كل من مصر وقطر والسعودية والجزائر وتركيا، لأنه تم نقضها قبل أن تجف توقيعات قيادات الفصائل وعودتها إلى الأماكن التي تعيش فيها.

لم يتعامل كثيرون مع الرعاية الصينية لملف المصالحة على أنها ستصمد أمام الرياح السياسية التي تنتظرها من هنا أو هناك، لأن بكين إذا أرادت التدخل بجدية كان لزاما عليها الضغط لوقف الحرب الإسرائيلية أولا، فأي مصالحة مهما بلغت أهميتها لن تجدي نفعا، لأن تطبيقها يحتاج إلى بيئة هادئة نسبيا، تسمح بتطبيق جزء من المخرجات التي حصلت عليها بكين برعايتها لاجتماعات القوى الفلسطينية على أراضيها، فالحصان يجب أن يوضع أمام العربة كي يتمكن من جرها سريعا.

ما قامت به الصين أنها رعت مصالحة في غير زمانها، فالحرب مستعرة في غزة ومن الواجب وقفها، وإسرائيل استخدمت كل الوسائل لتزيد من صعوبة الحياة البشرية في القطاع بعد الحرب، ولا توجد رؤية واضحة حول اليوم التالي لما بعدها، ولا يتبقى سوى أن بكين أرادت الاستثمار سياسيا في القضية الفلسطينية مثل أي دولة تريد أن تدس أنفها في صراع ساخن ولفت الأنظار إليها.

من حق القيادة الصينية القيام بالدور الذي تراه مناسبا في سياق منافستها للولايات المتحدة، والسعي نحو امتلاك أوراق تعتقد في أهميتها الإقليمية، غير أن المصالحة المعقدة قد تسبب لها ضجيجا دون الحصول على طحين، فالخبرات التي تراكمت عبر العقود الماضية في هذا الملف تشي بصعوبة تطبيق التفاهمات بين الحركات، ففي أحلك الظروف التي خلفتها الحرب المدمرة على غزة لم تظهر السلطة الفلسطينية مرونة كافية لاستيعاب القوى الوطنية، ولم يبد عدد كبير من هذه القوى، في مقدمتها حركة حماس، الليونة اللازمة التي تؤكد أهمية التوصل إلى قواسم مشتركة.

إذا كانت بكين تريد جس نبض واشنطن، فالمسألة ليست بحاجة إلى هذه الطريقة الملتوية، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل وأيا من القوى المعنية بالقضية الفلسطينية لن تحبذ طريقة التسلل الناعم، وإن كانت جزءا من إستراتيجية الصين الخارجية، وأثبتت نجاحها في الجوانب الاقتصادية في عدد من دول القارة الأفريقية.

فالتدخل في القضايا السياسية يتطلب خبرة وتجارب وتراكمات لم تصل إليها بكين، وإن حصلت على بعضها، فالقضية الفلسطينية والمصالحة بين مكوناتها متشابكتان.

قد لا تعترض الدول العربية صاحبة اليد الطولى في ملف المصالحة، فقد رحبت مصر بالتحركات الصينية وثمّنت الجهود السياسية التي بذلت الفترة الماضية، لكن النتيجة التي يمكن الوصول إليها ستكون محدودة فلسطينيا وصينيا، لأن هدف الفصائل في هذه المرحلة ينصب على الإيحاء بالوحدة والتكاتف والتقارب كي لا يتحمل أحدهم مسؤولية الإخفاق، واجتماع عدد كبير من الحركات في بكين لا يعني تلاشي المسافات بينها، ففي خضم الحرب لا أحد يريد أن يظهر كأنه خارج الإجماع الوطني.

وصينيّا لن تتحقق الأغراض المطلوبة على صعيد الاقتراب خطوة من أهم القضايا في منطقة الشرق الأوسط وأحد أبرز صراعاتها الممتدة، ولا على صعيد تطوير العلاقات مع الدول العربية، وعلى بكين أن تتحرك بجدية لوقف الحرب، وتظهر وجها إنسانيا ساطعا، وتقف بصرامة ضد انتهاكات يتعرض لها الشعب الفلسطيني، فما يهمه تخفيف وطأة الضغوط الإسرائيلية عنه، لأن المصالحة بين قياداته ميؤوس منها، وظهرت تجلياتها في أوقات سابقة أقل تصعيدا، مع ذلك تم تفويت الفرصة عليها.

وضعت الصين العربة أمام الحصان الفلسطيني لأنها ترمي إلى إحداث صخب، ومضايقة أو مغازلة جهات تقف بالقرب من الحصان وهي منتظرة سقوطه تماما أو تعمل على ضبط وجهته بالصورة التي تريدها، لأن بكين تدرك حجم التكاليف الباهظة التي يمكن أن تتحملها إذا وضعت الحصان في مكانه ليتمكن من جر العربة بسهولة، إذ يتطلب ذلك تضحيات قد تضع الصين في مواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل في قضية هامشية بالنسبة إليها، وفي بؤرة اهتمام الدولتين الأخريين في الوقت الراهن.

قذفت الصين بكرة المصالحة، كما قذفت روسيا بها من قبل ولم تحصل على نتيجة إيجابية، مع مراعاة الفجوة الكبيرة بين خبرة بكين وموسكو في القضية الفلسطينية، فالثانية ضلع في الرباعية الدولية للسلام، وأسهمت بأدوار عدة في اجتماعات مفصلية تتعلق بعملية التسوية السياسية، وأكثر انخراطا وحضورا مباشرا في قضايا المنطقة تاريخيا، ما يجعل ما تقوم به بكين مناوشة سياسية أكثر منه رغبة في تغيير مسار قضية حيوية من الداخل الفلسطيني، وهي بحاجة إلى تبني تصرفات أشد وضوحا لتتمكن من تحويل الثقة المعنوية إلى ثقة مادية وملموسة.

كما أن الحصان الفلسطيني يعرف مكانه جيدا إذا أراد جر العربة والوصول بها إلى بر المصالحة، لكن عدم توافر الإرادة السياسية لدى غالبية الفصائل أحد العوائق التي فشّلت المصالحة سابقا. بكلام آخر يتحمل الفلسطينيون جزءا كبيرا من مأساة الانقسام أكثر من الدول الراعية، فقد تنقلت قياداتهم بين محطات متباينة وكانت لدى بعض هذه الدول نوايا لإنجاح المصالحة، تحطمت على وتر الخلافات المتجذرة.

لن تحتاج بكين وقتا طويلا لتكتشف هذا المضمون، وعليها فقط النظر إلى طول التباعد بين السلطة الفلسطينية والفصائل الأخرى، والإمعان في التيارات المتصارعة داخل فتح باعتبارها الحركة التي يدير أحد أجنحتها السلطة الوطنية، والتدقيق في مستقبل حركة حماس في المنظومة الفلسطينية. بعدها سوف تتيقن أن المصالحة عرض لمرض مستعص، وليست سببا وحيدا للفشل.