تولى رئيس وزراء بريطانيا الجديد كير ستارمر العديد من المسؤوليات بدءًا من محام في مجال حقوق الإنسان ووصولا إلى مدع عام للدولة، واليوم عليه أن يركز عمله الدؤوب وذهنه المنهجي على التجديد وإعادة البناء.
ويعد الزعيم البالغ من العمر 61 عاما الشخصية الأكبر سنا التي تتولى المنصب منذ أكثر من نصف قرن، علما بأنه عضو منتخب في البرلمان منذ تسع سنوات فقط.
ستارمر متزوج وله ولدان، وعلى العكس من غالبية السياسيين في هذا العصر خاض مسيرة مهنية طويلة ومتميزة قبل أن يصير عضوا في البرلمان، كما أن أفكاره براغماتية أكثر منها أيديولوجية.
قال ستارمر في خطاب ألقاه مؤخراً خلال حملته الانتخابية “السياسة يجب أن يكون محورها خدمة” المواطنين، مكرراً شعاره المتمثل في وضع “البلد أولا، والحزب ثانيا” بعد 14 عاماً من حكم المحافظين في ظل خمسة رؤساء وزراء.
يتناغم هذا الشعار مع إشادة المؤيدين به باعتباره خيارا آمنا لإدارة الأمور في 10 داونينغ ستريت على غرار ما قام به خلال مسيرته القانونية بجدية وتأن.
في المقابل يصفه منتقدون بأنه انتهازي، غالبا ما يبدّل مواقفه، ويشددون على أنه لا يملك رؤية واضحة للبلاد. وفي بعض الأحيان يبدو مشجع فريق أرسنال، الذي جاء إلى السياسة في وقت متأخر من حياته، غير مرتاح في دائرة الضوء، ويكافح من أجل التخلص من صورته العامة باعتباره شخصية مملة.
ويعترف أنصاره بأنه يفتقر إلى الكاريزما التي كان يتمتع بها أسلافه الأكثر جذبا للأضواء على غرار بوريس جونسون، لكنهم يقولون إن قوته تكمن في أن حضوره يوحي بالاطمئنان في أعقاب سنوات مضطربة من حكم المحافظين.
بشعره الأشيب ونظارتيه ذات الإطار الأسود يعد كير ستارمر، الذي سمي على اسم مؤسس حزب العمال كير هاردي، الأكثر انتماء إلى الطبقة العاملة من بين الذين تعاقبوا على رئاسة الحزب المعارض منذ عقود.
قال ستارمر للناخبين مرارا خلال جولاته الانتخابية “والدي كان يعمل في مصنع للأدوات، وأمي كانت ممرضة”، رافضا وصف منافسيه له بأنه ينتمي إلى نخبة لندن الليبرالية المتعجرفة.
ويسلط فصل يساريين من الحزب خلال زعامته الضوء على جانب قاس من شخصيته دفعه إلى أعلى منصب سياسي في بريطانيا، لكن يقال إنه طريف في مجالسه الخاصة ومخلص لأصدقائه.
تعهد ستارمر في حال انتخابه بالحفاظ على عادته المتمثلة في محاولة عدم العمل بعد الساعة السادسة مساء من أيام الجمعة وتمضية هذا الوقت مع عائلته، لاسيما زوجته فيكتوريا التي تعمل في الخدمة الصحية الوطنية وله منها فتى وفتاة في سن المراهقة، لا يتحدث عنهما في العلن.
وكتب معد سيرة ستارمر توم بولدوين في صحيفة الغارديان “المذهل فيه هو أنه لا يزال محافظا على طبعه”.
وُلِد ستارمر في 2 سبتمبر 1962، ونشأ في منزل ضيق في ضواحي لندن برعاية أم تعاني من مرض خطير وأب لا يعبر عن مشاعره وعواطفه.
لديه ثلاثة أشقاء أحدهم يعاني من صعوبات في التعلم، ووالداه من محبي الحيوانات وقد ساهما في إنقاذ عدد من الحمير.
تعلم ستارمر في المدرسة العزف على الكمان على يد نورمان كوك عازف الغيتار السابق الذي اشتُهر لاحقا.
بعد دراسة القانون في جامعتي ليدز وأكسفورد حول ستارمر انتباهه إلى القضايا اليسارية ودافع عن النقابات العمالية والناشطين المناهضين لماكدونالدز والسجناء المحكوم عليهم بالإعدام في الخارج. وهو صديق للمحامية في مجال حقوق الإنسان أمل كلوني التي تدرب معها على ممارسة المحاماة.
عام 2003 بدأ يقترب من المؤسسة السياسية ما سبب صدمة لأصدقائه وزملائه. وفي البداية تولى وظيفة تضمن امتثال الشرطة في إيرلندا الشمالية لتشريعات حقوق الإنسان.
وبعد خمس سنوات تم تعيينه مديرا للنيابة العامة في إنجلترا وويلز عندما كان زعيم حزب العمال غوردون براون رئيسا للوزراء.
بين عامي 2008 و2013 أشرف على محاكمة أعضاء برلمان بتهمة استغلال نفقاتهم، وصحافيين بتهمة التنصت على الهواتف، ومثيري شغب شبان شاركوا في الاضطرابات في جميع أنحاء إنجلترا.
وحصل على لقب سير من الملكة إليزابيث الثانية، لكنه نادرا ما استخدم هذا اللقب، وعام 2015 تم انتخابه عضوا في البرلمان عن منطقة في شمال لندن تغلب على ناخبيها الميول اليسارية.
وقبل أسابيع فقط من انتخابه توفيت والدته بسبب مرض نادر في المفاصل جعلها غير قادرة على المشي لسنوات عديدة.
بعد عام من انتخابه عضوا في البرلمان انضم ستارمر إلى مجموعة من النواب المتمردين في حزب العمال ضد اليساري جيريمي كوربن متهمين إياه بالافتقار إلى القيادة خلال حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
فشل التمرد في وقت لاحق من ذلك العام، لكن ستارمر انضم مجددا إلى قيادة حزب العمال بصفته متحدثا عن الحزب في ما يخص بريكست، وبقي يؤدي هذا الدور حتى خلافته كوربن الذي قاد الحزب إلى أسوأ هزيمة له في الانتخابات منذ عام 1935.
ومنذ ذلك الحين أظهر ستارمر تصميما من خلال إعادة الحزب إلى موقع الوسط وقيادته حملة تطهير لإرث كوربن، وقام بحملة لاجتثاث ما أسماه “معاداة السامية” داخل الحزب.
قال المحافظ دومينيك غريف الذي عمل معه عندما كان مدعيا عاما إن ستارمر “يوحي بالولاء لأنه يبدو مستقيما وعقلانيا”.
وفي تصريح لصحيفة تايمز قال غريف “إنها ميزات مهمة للغاية حتى لو اختلفت معه في السياسة. يبدو لك أنه شخص معتدل”.
اتهم اليسار ستارمر بالخيانة لإسقاطه عددا من التعهدات التي قطعها خلال حملته الانتخابية، بما في ذلك إلغاء الرسوم الجامعية.
لكن نجاحه في استعادة المكانة الإستراتيجية لحزب العمال ووضعه مرة أخرى على سكة السلطة يدل على أن النجاح أمر ثابت في حياة ستارمر.
وقال مرة “إذا ولدت دون امتيازات فلن يكون لديك وقت للعبث… لا يمكنك الدوران حول المشكلات من دون حلها”.
ومن المنتظر أن يشرف ستارمر على البرلمان الأكثر تعددية على الإطلاق من منظور التنوع العرقي وعدد النساء بين أعضائه، بعد أن حقق حزب العمال الذي يتزعمه فوزا ساحقا في الانتخابات التي جرت الخميس وأنهى 14 عاما من حكم المحافظين.
وسيمثل الأعضاء السود والآسيويون وغيرهم من الأقليات العرقية نحو 13 في المئة من مجلس العموم البريطاني مقارنة بنحو عشرة في المئة بعد الانتخابات البرلمانية السابقة في عام 2019.
وستكون نسبة الأعضاء ممن ينتمون إلى أقليات عرقية في المجلس هي الأعلى على الإطلاق، وفقا لتحليل أجرته مؤسسة بريتيش فيوتشر البحثية.
إلا أن تلك النسبة لا تعكس تماما التنوع بين السكان والناخبين إذ أن ما يعادل 18 في المئة من سكان إنجلترا وويلز ينحدرون من أصول سوداء أو آسيوية أو مختلطة أو من أقليات عرقية أخرى، وفقا لبيانات رسمية.
وسيضم البرلمان الجديد 242 نائبة، وهو عدد غير مسبوق يتجاوز نتائج الانتخابات السابقة بعدد 22 سيدة.
وسيكون الشهر الأول من تولي ستارمر منصب رئيس الوزراء حافلا بالأحداث الدبلوماسية الدولية، وأبرزها اجتماعات مع الرئيس الأميركي جو بايدن والقادة الأوروبيين.
وستكون أولى خطواته على الساحة العالمية بعد أيام قليلة في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسه، والتي ستُعقد في واشنطن من الثلاثاء إلى الخميس المقبليْن.
وسيستضيف ستارمر بعد ذلك في قصر بلينهايم بالقرب من أكسفورد، وسط إنجلترا، في 18 يوليو اجتماعا للمجموعة السياسية الأوروبية. ومن المتوقع أن يشارك في الاجتماع كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز.
وكان حزب العمال تعهد بانتهاج سياسة خارجية “واقعية تقدمية”، لافتا إلى عالم أكثر تقلبا “ليس كما نريده أن يكون”، بحسب ديفيد لامي الذي من المتوقع أن يصبح وزيرا للخارجية. وتعهد الحزب أيضا بـ”إنجاح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي” والسعي إلى اتفاق أمني “طموح” مع الاتحاد.
وقال ستارمر العام الماضي إن المملكة المتحدة بحاجة إلى الاستغناء تدريجيا عن الصين في قضايا مثل التجارة والتكنولوجيا مع الاعتراف بأهمية القدرة على التعاون في قضايا مثل معالجة مشكلة تغير المناخ.
ويتمثل التحدي في تحقيق التوازن بين المصالح التجارية والاقتصادية للمملكة المتحدة والضرورات الأمنية. وقد يتعقد الأمر بسبب العودة المحتملة لدونالد ترامب إلى واشنطن بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر القادم. ومن المتوقع أن يزيد ترامب الضغط على الحلفاء ليكونوا أكثر صرامة تجاه بكين.
ويؤكد الحزب التزامه بالاعتراف بالدولة الفلسطينية “كمساهمة في عملية السلام المتجددة التي تؤدي إلى حل الدولتين”. لكنه لم يحدد أي جدول زمني للقيام بذلك.
وتشمل الالتزامات الأخرى الضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق سراح جميع الرهائن، وزيادة كمية المساعدات التي تصل إلى غزة.
وتعهد ستارمر بالعمل مع حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا إذا وصل إلى السلطة. وقال “سأعمل مع أي حكومة في أوروبا وفي جميع أنحاء العالم إذا تم انتخابنا… بالنسبة إلي هذا هو ما تعنيه الحكومة الجادة”.
وأكد أن الاتفاقيات الثنائية مع فرنسا والاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي بأكمله، والذي صوتت المملكة المتحدة لصالح الخروج منه في عام 2016 ما أدى إلى خروج فوضوي، كانت مهمة لمعالجة قضية المهاجرين الذين يعبرون القناة الإنجليزية في قوارب صغيرة.
وردا على سؤال حول تفضيل زعيمة حزب التجمع الوطني الفرنسي مارين لوبان للصفقات الثنائية على الصفقات التي تشمل الاتحاد الأوروبي أكد ستارمر أن هذه لا تتنافى مع تلك.
وأشار إلى أن الاتفاقيات الثنائية مع فرنسا بحاجة إلى التعزيز والتحسين “خصوصا ما تعلق منها بالقضاء على العصابات التي تدير التجارة الدنيئة المتمثلة في وضع الناس في القوارب”.
وتدارك “لكن هناك أيضا إجراءات للاتحاد الأوروبي”، موضحا أن “الاتفاقية الأمنية التي نريدها مع الاتحاد الأوروبي عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع عصابات التهريب مهمة حقا”.
وتعد لندن من أشد المؤيدين لكييف وقدمت إليها المال والأسلحة وقامت بتدريب قواتها لمساعدتها على صد الغزو الروسي.
وأكد حزب العمال استمرار دعمه لأوكرانيا في حال فوزه، ومن المتوقع أن يلتقي ستارمر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سريعا لتأكيد هذه الرسالة شخصيا.
وقال ستارمر إن الاجتماع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس مطروحا في الوقت الحالي ووصفه بأنه “المعتدي في أوكرانيا”.
وشدد على أن “الأمر الأكثر أهمية هو أن نكون واضحين تماما لجهة أن دعمنا لأوكرانيا يتم على جبهة موحدة في هذا البلد”.
وسيتم إجراء مراجعة دفاعية إستراتيجية خلال السنة الأولى للحكومة من أجل تحديد المسار لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي