في ظل الحديث عن مخطط إيراني لنقل قيادات حماس من الدوحة إلى العاصمة العراقية بغداد، يدرك الساسة القطريون أنهم سيخرجون من حرب غزة بوفاض خال، فملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المعقد لم يسر كملفات الوساطة التي تولتها قطر بين الولايات المتحدة وعدد من الحركات والجماعات الإسلامية؛ كملف العلاقة مع طالبان، التي حققت به بعض النجاحات.
صحيفة “ذا ناشيونال” كشفت أن الحكومة العراقية وافقت على انتقال المستوى القيادي الأعلى للحركة إلى بغداد على أن توفر طهران الحماية لقادة الحركة وأفرادها ومكاتبها، والتي اُفتتح مؤخرا مكتبها السياسي الأول برئاسة محمد الخافي، على أن يُفتح مكتب إعلامي خلال الأيام القليلة المقبلة.
نقل حماس إلى بغداد، مخطط إيراني يهدف إلى الحفاظ على وحدة الحركة المهددة بخطر الانشطار إلى تيارات تتبع حواضن إقليمية وعواصم عربية، خاصة بعد واقعها المأزوم اليوم بسبب حرب غزة، لذا يسعى الإيرانيون بهذه الخطوة لإبقاء وتوسيع نفوذهم داخل الحركة للاستفادة من زخم شعبيتها وخلفيتها الإخوانية في الشارع العربي وتوظيف ذلك في مخططاتهم التي تستهدف دولا عربية في المنطقة، خاصة ما يتعلق منها بالمملكة الأردنية.
مخطط نقل حماس إلى بغداد لم يكن وليد اللحظة، بل بفعل تراكم تداعيات الحرب التي أثرت وستؤثر على خارطة التحالفات في الشرق الأوسط، فقطر وإن كانت تدفع باتجاه خروج قيادات حماس من سيطرة حكم دوائرها السياسية والأمنية لتخفف من وطأة الضغوط الدولية عليها، فهي تقف أمام معضلة خسارة ورقة نفوذها الوحيدة في ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لصالح استحواذ إيران الكامل على قرار الحركة وقياداتها، لذلك لجأت الدوحة منذ فترة وجيزة إلى خلق مسار جديد لإيجاد بديل داخل الساحة السياسية الفلسطينية.
بالعودة قليلا إلى الوراء.. منذ السابع من أكتوبر، أبلغت الدوحة قيادات السلطة الفلسطينية وجهات رسمية تركية، فضلا عن الولايات المتحدة، باستحالة إدامة العلاقة مع حماس، لاعتبارات سياسية واقتصادية، وهو ما سربته في أكثر من مناسبة لوسائل إعلام في رسالة استهدفت جهات دولية انتقدت الاحتواء القطري للحركة.
رسالة تزامنت مع تحركات قطرية للتواصل مع عدد من قيادات وشخصيات فلسطينية مستقلة في محاولة استباقية لدمج حماس وحمايتها داخل إطار سياسي فلسطيني يكون مقبولا على الساحة السياسية الدولية، ولعل أبرز هذه المحاولات؛ محاولة التقرب – بداية الحرب – من القيادي محمد دحلان وتياره، الذي أغلق الباب بوجه الساسة القطريين، رافضا منح حماس أي غطاء سياسي دون ضمانات لوحدة فلسطينية حقيقية بعملية مصالحة شاملة مع الكل الفلسطيني.
وفي محاولة جادة لتخفيف الضغوط عن قطر، وإنقاذ مستقبل حماس السياسي، تدخلت تركيا عبر وزير خارجيتها بالإعلان عن إمكانية تحول حماس إلى حزب سياسي مع حل جناحها العسكري في إطار الدولة الفلسطينية، وهو إعلان لم يلق صداه على الساحة الدولية.
صدمة تلو الصدمة تتلقاها التحركات القطرية، التي أتت في سياق إنقاذ الدوحة أولا قبل إنقاذ حماس من الانتقادات الدولية، التي قد تنبش بدفاتر قطرية عتيقة مليئة بانتهاكات حقوق الإنسان والرشاوى إبان التحضير للمونديال، ليأتي رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس إشراك الحركة بمشاورات حكومة التكنوقراط برئاسة الدكتور محمد مصطفى، كالقشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة أن ضغوطا إسرائيلية وأميركية باتت تأخذ منحى التهديد الجدي بإجراءات عقابية تؤثر على ما سعت إليه قطر خلال السنوات الماضية من بناء علاقات ثقة مع دول المجتمع الدولي في مقدمتها الولايات المتحدة.
استمرار التخبط القطري في وقف نزيف تداعيات الحرب على سياستها الخارجية أمام صخب الضغوط الدولية، أدى إلى تغيير اللهجة السياسية القطرية مع قيادات حماس، التي لم يكن أمامها إلّا الهرب إلى تركيا، لتعود بعد أن مكثت هناك ثلاثة أسابيع تقريبا، بعد تدخل تركي كان ناصحا لقطر؛ بأن النفوذ الإيراني سيطر على قرار الحركة التي أصبح حصرا بيد يحيى السنوار.
نهج الوساطة القطرية في جولة التفاوض الأخيرة بين الحركة وإسرائيل، أظهر ضعف قيادات حماس في الدوحة في التأثير على المشهد الداخلي، خاصة مع استمرار رهان السنوار على دور إيران ومحورها في التأثير على واقع الحرب في غزة. الرفض الإيراني القاطع لإبرام اتفاق هدنة في قطاع غزة وتهديداتها المستمرة لقادة حماس الخارج بعدم التعامل مع جهود الوساطة، دفعا هذه القيادات إلى البحث في فلك طهران ومحورها عن مقر إقامة جديد، يخرجها من الدوحة حفاظا على علاقة التحالف والدعم بين العاصمة القطرية وجماعة الإخوان المسلمين الأم.
مجددا، توجه قيادات حماس إلى العاصمة العراقية، سيخفف العبء عن الساسة القطريين، لكن في المقابل سيفقدهم جزءا كبيرا من نفوذهم داخل الحركة، وهو ما سينعكس على دفع الدوحة نحو الإسراع لإنجاز مسار خاص بها يفضي إلى إيجاد بديل فلسطيني عن حركة حماس، يمنحها إبقاء نوع من نفوذها داخل الساحة الفلسطينية.
المسار القطري نجح إلى الآن في تكوين نواة تجمع فلسطيني يضم عددا محدودا من الفلسطينيين الطامعين لدخول الساحة بعد انتهاء حركة حماس، يزاحم منظمة التحرير، كبديل يسدّ فراغا محتملا داخل الساحة السياسية الفلسطينية، نواة بعيدة عن الأيديولوجيات الدينية وتجربة حماس الإخوانية، حيث عُقدت سلسلة لقاءات واجتماعات في العديد من العواصم (لندن، الدوحة، الكويت والضفة الغربية) استعدادا لعقد مؤتمر وطني فلسطيني برعاية وتمويل قطريين.
المعلومات المؤكدة التي تسربت عن بعض الشخصيات، تحدثت عن خلافات عميقة وفجوات واسعة وصراعات محتدمة حول من يترأس المؤتمر وما سينتج عنه من تجمع كإطار قيادي، هناك خلاف كبير حول بعض الأسماء المطروحة، وعقبات عديدة تقف في طريق استكماله، خاصة في جزئية ما يتعلق بقبول الشعب الفلسطيني لقيادات مدعومة قطريا لا تملك تاريخا نضاليا، فطبيعة الشعب الفلسطيني طبيعة عشائرية وفصائلية، وقد اعترف خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس السابق ذات يوم، بفشل الحركة في الاستحواذ على الشارع الفلسطيني، والحلول بدلا عن حركة فتح المتجذرة بداخله لاعتبارات تتعلق بطبيعته وتكوينه.
فشل حماس في تحريك جبهة الضفة الغربية، وفشلها في تجهيز وإعداد مظاهرة شعبية واحدة كبيرة داخل مدينة رام الله، مقر خصمها السياسي، واعتمادها حتى هذه اللحظة على ردود فعل شعبية عفوية إبان صفقة تبادل الأسرى الأولى لترويج تأييدها وإظهار شعبيتها، يطرح تساؤلات منها: هل سيملك المسار القطري الجديد وما سينتج عنه من تجمع سياسي فلسطيني فرصة التأثير داخل هذا الشارع؟ وهل تملك قطر أدوات للضغط تبقيه متماسكا وبعيدا عن ورقة المال السياسي التي تستخدمها حاليا؟
تجارب سياسية عديدة أنتجها المال، وبعثرتها الطموحات السياسية الشخصية، وأجهضتها التدخلات الخارجية.