الرئيسية / أخبار / أسوأ حكومة بريطانية منذ عام 1776 في طريقها إلى الرحيل

أسوأ حكومة بريطانية منذ عام 1776 في طريقها إلى الرحيل

حزب المحافظين البريطاني سيغادر داونينغ ستريت الذي شغله مؤخرا خمسة رؤساء وزراء يفتقرون للكفاءة. وسيترك بريطانيا أكثر فقرا وضعفا بعد 14 عاما من الحكم. يُذكر أن تدفقات التجارة والاستثمار تقلصت. ولم تتحقق الصفقات التجارية الموعودة مع الهند والولايات المتحدة إثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016. واستبدِل العمال الذين سافروا من أوروبا بأعداد أكبر من الآسيويين والأفارقة، وهم الأشخاص أنفسهم الذين لا يحبذ أنصار حزب المحافظين وجودهم. وتبرز قصة بلد عاد إلى وضعه قبل وصول مارغريت تاتشر إلى السلطة خلال 1979 عبر حالة الخدمة الصحية الوطنية الكئيبة، وانتشار بنوك الطعام التي يبدو عددها أكبر من عدد فروع مطاعم ماكدونالد، والسكك الحديد المكسورة، والأنهار التي تتدفق عبرها مياه الصرف الصحي، وفقر الأطفال المتزايد. عادت بريطانيا رجل أوروبا المريض. وهي تخسر احترام العالم أكثر من أيّ وقت مضى في التاريخ الحديث.

كما تجدر الإشارة، رغم أن هذه مسألة تقنية، إلى أن المؤسسات البريطانية التي كانت تمتلك، قبل 25 عاما، 50 في المئة من أسهمها في شركات بريطانية لم تعد تمتلك الآن سوى 4 في المئة، ويعتبر هذا أسوأ تعريف لبريطانيا الرأسمالية العالمية! ولا بد أن تاتشر تتقلب في قبرها بسبب هذه الخيانة.

مساعي رئيس الوزراء ريشي سوناك المضنية تؤطر لحشد أصوات كبار السن في الانتخابات باعتبارها فرصة لاستعادة الماضي. أما فكرة الخدمة الوطنية لمن هم في سن 18 عاما، وهو أمر ينظر إليه قادة الجيش بسخرية، والإعفاءات الضريبية للمتقاعدين، وتقليص الدورات الدراسية للطلاب الأضعف، وطرد اللاجئين إلى رواندا، فهي تشير إلى أنه سيكون محظوظا إذا نال دعم أكثر من 10 في المئة من الفئة العمرية التي تشمل من هم بين 18 و24 سنة.

أما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فكان آخر ممارسة في إطار الحنين إلى الماضي. لكنه لم يمكّن تيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تراس وريشي سوناك من استعادة مجد بريطانيا الماضي. لقد أصبحت بريطانيا أكثر فقرا ولؤما. ودفعت مراجعة إستراتيجية داونينغ ستريت جانبا ما اعتبره المحافظون انشغالا “ضيق الأفق” بأوروبا لكنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة غزو روسيا لأوكرانيا.

ضياع بوصلة السياسة الخارجية البريطانية الإستراتيجية يبرز أكثر بدعمها القوي لأوكرانيا بعد أن اجتاحتها روسيا في 2022 والتجاهل القاسي لمحنة الفلسطينيين في المقابل. وتشير الأحداث منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 إلى أن الكثير من شعوب العالم، وعددا متزايدا من المواطنين البريطانيين، والأوروبيين في الواقع، لن يصدقوا أبدا رئيس وزراء بريطانيا عندما يتحدث عن دعم القيم الديمقراطية. وأصبحت هذه القيم والبوصلة الأخلاقية التي كان من المفترض أن تقدمها بريطانيا مدفونة في أنقاض غزة.

العديد من البريطانيين يتفقون مع إدوارد لوس، محرر الشؤون الأميركية لصحيفة فايننشال تايمز، حين كتب “يمثّل تاريخ 4 يوليو ثاني عطلة مفضلة لديّ في الولايات المتحدة بعد عيد الشكر. وبما أن هذا الاحتفال بعيد استقلال عند الإنجليز سوف يتزامن هذا العام مع الانتخابات العامة البريطانية التي سيطرد فيها أبناء وطني حكومة المملكة المتحدة الأقل كفاءة التي شهدتها في حياتي، وهي في الواقع الأسوأ منذ أن شقّ اللورد نورث طريقه إلى الثورة الأميركية”.

لوس اعتبر حكومة المحافظين فوضوية، مستخدما عبارات قاسية تلخّص شعور العديد من البريطانيين وغير البريطانيين الذين تعلموا احترام بلد حققت سياساته وأمواله وتجارته ورياضته وفنونه الكثير على مدى القرنين الماضيين لتشكيل العالم الحديث.

حزب المحافظين أصبح أحدث ضحية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن هذه السياسة ليست السبب الوحيد، أو السبب الجذري الذي يفسر كون المحافظين على حافة الهاوية الانتخابية. وخلص الناخبون إلى أنهم كانوا تحت قيادة سلسلة من الأشخاص غير الأكفاء لمدة أربعة عشر عاما وأن البلاد أصبحت في حالة أسوأ مما كانت عليه في 2016، ناهيك عن 2010. ولم ينسوا تقليص النفقات الأسوأ بكثير من أي شيء في أوروبا، وهو أمر فرضه عليهم وزير المالية السابق، جورج أوزبورن ورئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون إثر أزمة 2008 المالية.

الذين روجوا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سبّقوا الأيديولوجيا على البراغماتية، ونبذوا قادتهم الأكثر كفاءة واعتمدوا شكلا من أشكال السياسات الشعبوية بدرجة لم تعهدها المملكة المتحدة. لقد تخلى حزب المحافظين عن البراغماتية التي تميز بها لمدة قرنين، وطارد أصوات أنصار حزب العمال السابقين الذين صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع وعود بدعم الشمال الأكثر فقرا في انتخابات 2019. ستكلف الهزيمة هنا المحافظين أغلبيتهم. ويخاطرون من خلال إهمال الناخبين من الخريجين وسكان المدن وغيرهم من المؤيدين في الجنوب بنتائج كارثية في الانتخابات. وعزز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي غريزتين غير محافظتين بين نواب حزب المحافظين. الأولى أن الغاية تبرر الوسيلة. والثانية الميل المستوحى من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتصوير المؤسسات الأساسية للديمقراطية البريطانية، وخاصة المحاكم والخدمة المدنية، أعداء للشعب. وأمكن مهاجمة القواعد والقوانين والهيئات الأساسية علنا، مما ترك العديد من الناخبين، بما في ذلك المحافظين، في حالة ذهول تامة.

أما البروز الشعبوي المفاجئ لنايجل فاراج على الساحة السياسة البريطانية فجاء “مثل صوت التجشؤ الدال على سوء الهضم.. موجها إهانة للطبقة السياسية في وستمنستر، وناعيا للبلد على الصعيدين الاقتصادي والأخلاقي، وضاربا ناقوس الخطر محذرا من هجرة جماعية تلتهم الموارد العامة المتوفرة”.

وأضاف رافاييل بيير “لقد أعِدّت هذه الطبخة لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويُعاد تقديمها الآن تحت شعار الإصلاح في المملكة المتحدة”.

فاراج سيلقى كالعادة استحسان كبار السن البيض من غير الخريجين الذين يشعرون بالقلق إزاء تصاعد الجريمة والهجرة، والأشخاص الذين يشككون في أن السياسة تحدث فرقا كبيرا، بعد أن استرضى قادة حزب المحافظين المتعاقبين على مدى عقدين. وكانت العواقب كارثية على الحزب والبلاد.

ديفيد كاميرون كان آخر محافظ بارز يواجه فاراج، وحدث هذا سنة 2006 عندما وصف حزب استقلال المملكة المتحدة بأنه “يجمع نخبة الخاسرين والعنصريين الانعزاليين”.

ولكن، يظل فاراج مضخم الغضب القاصر الذي قدم لمدة ربع قرن شعارات خيالية تفوق تكلفتها أي فوائد محتملة. لكنه ليس مصدرا للحلول العملية. ويتمثل مشروعه في دفع بريطانيا إلى اليمين أكثر، وتعتمد سلطته على تأثير الصحافة اليمينية المعادية للأجانب، التي تشتهر بحملتها العنيفة ضد الحقوق الفلسطينية، وهو أمر يقلل تأثيره العديد من المراقبين الأجانب. ويرى هؤلاء ضرورة مغادرة الاتحاد الأوروبي وحرمان العمال المهاجرين من حقوقهم. كما يرون في فرض ضرائب على الأغنياء والاستثمار في الخدمات العامة نوعا من الماركسية المعكوسة.

ليست بريطانيا حاليا على وشك عكس مسار خروجها من الاتحاد الأوروبي فليس للتكتل مصلحة في مثل هذه المفاوضات حتى يصبح هذا محل إجماع السياسيين البريطانيين باختلاف توجهاتهم. ولن تسمح بروكسل لرئيس الوزراء القادم (زعيم حزب العمال كير ستارمر على الأرجح) باختيار مجالات التعاون التي يريدها في أيّ اتفاق حكومي جديد مع الاتحاد. لكن الانتعاش الاقتصادي المستدام في بريطانيا سيعتمد على علاقة أوثق وأكثر سلاسة مع الاتحاد الأوروبي الذي يستقطب جل النشاط التجاري والاستثمار في البلاد.

المحافظون اختاروا إنهاء الحديث عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لكن رئيس الوزراء البريطاني القادم لن يكون له خيار في هذا المجال. ولا يمكن أن تستمر مؤامرة الصمت على حالة الاقتصاد التي تميز هذه الحملة الانتخابية إلى ما بعد يوم الانتخابات. وقد يوفر وجود أغلبية عمالية ساحقة، وانغماس حزب المحافظين في معارك مريرة حول درجة التراجع التي يسعى لبلوغها، فرصة فريدة لرئيس الوزراء الجديد للتحرر من قيود التخطيط التي تجعل تكلفة إنجاز مشاريع البنية التحتية الكبرى أعلى في المملكة المتحدة مما هي عليه في دول مماثلة وإصلاح النظام الجبائي على العقارات.

فهل لا يزال الأمل قائما في رؤية أغلبية عمالية واسعة وفي تسلح كير ستارمر بالجرأة؟