تطالب إسرائيل بحكومة موالية لها في قطاع غزة بحيث يكون نسيجها ذا طابع عشائري خالص، وقد رفضت مؤخرا أن يكون للسلطة الوطنية الفلسطينية أي دور تلعبه في إدارة الحكم في القطاع، كما رفضت بشكل مطلق تولي السلطة المعابر كرفح وغيره، هذا يدلل على أن إسرائيل ماضية في استبدال حماس وتقويض حكمها في قطاع غزة. وعلى ما يبدو فإن ملامح الوضع القادم لغزة باتت واضحة.. حكومة عشائر، وحماس خارج الحلبة السياسية، منزوعة السلاح، مع البقاء على تواجد الاحتلال في المناطق الحدودية لغزة وتقسيمها إلى نصفين غزة الشمالية وغزة الجنوبية.
هذا المشهد لو حصل يذكرنا بالألمانيتين، ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. لكن الصورة مختلفة إذا ما قورنت بقطاع غزة، كانت ألمانيا الغربية التي كانت تحت الوصاية الأميركية يعيش الألمان فيها في رغد من العيش. بينما ألمانيا الشرقية التي كانت تحت وصاية الاتحاد السوفييتي في حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والمعيشي. لهذا توحدت الألمانيتين ولم يترك الغربيون إخوانهم الشرقيين في هذا الحال البائس، فهب الغربيون واتحدوا مع الشرقيين ليعيدوا ألمانيا كما كانت.
الدرس المستفاد من القصة الألمانية هو كانت هنالك إرادة شعبية وانتماء صادق، كانا الدافع الأساس في إعادة ألمانيا إلى ما كانت عليه قبل التقسيم. ورغم الاتفاق المجحف بحقها على صعيد منعها من التسليح إلا أنها برزت كقوة اقتصادية ضمن مجموعة الدول الصناعية السبع. ونجحت التجربة في توحيد الشعب الألماني بإرادة شعبية لكن هل مثل هذه التجارب تنجح في عالمنا العربي وفي ظل وجود حكم إسلام سياسي متشبث بالحكم حتى لو كان ما بعده الطوفان؟
في حال نجح الاحتلال في تقسيم القطاع حسب المخطط المرسوم وسيطر على غزة وحدودها تبقى هنالك فجوة كبيرة بين الشعب وحماس، فتوحيد الخطاب بعيدا عن التلويح بالقوة أو استخدامها قد يقود إلى تحرير القطاع وإعادته كما كان قبل حرب أكتوبر، ولكن في حال كان الشعب في واد وحماس في واد آخر ستزداد المعاناة أكثر، وبقي الحال على ما هو عليه.
استنادا إلى ذلك، أي احتلال في العالم من ضمن فلسفته الإبقاء على الشعب المحتل مشغولا مع نفسه أو مع من يحكمه، حتى يستطيع إحكام السيطرة عليه، والإمعان في تفتيته، وهذا يندرج ضمن سياسة فرق تسد. فرغم أننا نعي ما يريده الاحتلال من شرذمة الشعب الفلسطيني وترك فجوة كبيرة بين الحاكم والمحكوم ما زلنا نتجاهل هذا المقصد الخبيث ونتجاوز عنه، كأنه لم يكن، علما بأن إدراكه مهم جدا في بلورة فكر ينير لنا الطريق ويحد من غطرسة إسرائيل.
وإزاء ذلك، نحن أمام تحد فإما أن نكون أو لا نكون. وكان لازما على الشعب الفلسطيني نبذ الخلافات الداخلية، لأن القضية الفلسطينية اليوم تمر بمنعطف خطير جدا، بعد توغل إسرائيل في غزة والسيطرة على مفاصلها المهمة ومعابرها، وما زال توحيد الخطاب الفلسطيني أيضا يمر بمنعطفات خطيرة، ما دامت هناك آثار لحركة الإخوان المسلمين وفكرها الجامد الذي لا يستوعب الآخر ولا يقبل به شريكا.
ولو افترضنا أن الحرب انتهت على القطاع بعد شهور قليلة كيف ستبدو غزة؟
في هذا الإطار ما زال هنالك تخبط عالمي وما بعد اليوم التالي غير واضح. ما رشح هو تقسيم غزة والإبقاء على تخومها. أما من يدير غزة فثمة عدة اقتراحات، جميعها يستبعد الدور الفلسطيني. والسؤال المهم هو هل يستطيع العالم برمته إقناع إسرائيل بحل يرضي جميع الأطراف بعد التوافق الفلسطيني – الفلسطيني وقبول حماس بالسلطة الوطنية في غزة؟
هذا يعتمد على ما تحققه إسرائيل من أهداف على الأرض. في حال كانت الغلبة لها فإن فرض الشروط الإسرائيلية لا يخدم الصالح الفلسطيني. وويل بعدها للدولة المهزومة عندما يكتب التاريخ اسم المنتصر. وفي حال تم ما تصبو إليه إسرائيل يكون الشعب الفلسطيني قد خسر الكثير، وتكون الضفة الغربية قد سقطت تباعا، وفي المحصلة النهائية تكون القضية الفلسطينية في مهب الريح والزوابع.
وفق كل هذه العوامل مجتمعة، تعكف إسرائيل اليوم على تجريد قطاع غزة من كل شيء.. من الفصائل وعلى رأسها حماس، وتعمل على أن تكون غزة خالية من السلاح، قطاعا صغيرا مقسما ومدمرا سكانه في حالة من الضياع والجوع، وإعادة الإعمار ستجري ببطء شديد. وسيكون كل ذلك مقدمة للهجرة الطوعية، وهذا ما نخشاه للأسف فالطريق معبدة بالأشواك، والخلاص بتمتين الجبهة الداخلية وتوحيد الخطاب.