أصبح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي مضطرا في الفترة المقبلة إلى إدخال تعديلات على توجهاته العامة، ومن بينها سياسته الخارجية وموقفه الصارم من إسرائيل، بعد إخفاقه في الحصول على أغلبية مطلقة تمكنه من تشكيل حكومة جديدة منفردا.
وأكدت نتائج الانتخابات النهائية التي أعلن عنها بداية يونيو الجاري وجود ثلاثة أحزاب رئيسية يمكن أن يتحالف مع أحدها أو أكثر بدلا من اللجوء لأحزاب صغيرة، ما يعني عدم تمكنه من تمرير سياساته كما كانت وإجباره على تعديل بعضها.
مع أن الأحزاب الرئيسية الأربعة التي جاء ترتيبها على التوالي: المؤتمر الوطني، والتحالف الديمقراطي، وإم كيه أو رمح الأمة، والمناضلون من أجل الحرية الاقتصادية، انصب جُل اهتمامها على الأوضاع الداخلية، غير أن التباين في توجهات كل منها سينعكس على السياسة الخارجية عقب إعلان التحالف مع الحزب الفائز بأكبر نسبة أصوات وهو المؤتمر الوطني، والذي اتخذ موقفا حاسما من إسرائيل على مدار تاريخه، باعتبارها رمزا لعنصرية مقيتة بذل الراحل نيلسون مانديلا جهودا ضخمة لمقاومتها ودفع ثمنا غاليا من أجل تحرير جنوب أفريقيا منها.
تركزت عيون دوائر كثيرة على الموقف من إسرائيل بشأن قضية الإبادة الجماعية التي تقدمت بها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، وتضامنت معها دول عدة لاحقا، وما يمكن أن يدخل عليها من تغيرات بعد فقدان الحزب الحاكم أغلبيته في الجمعية الوطنية، وما ينجم عنها من تقاسم للسلطة مع حزب أو أكثر من أحزاب المعارضة، ولكل منها تصورات للسياسية الخارجية تؤثر بدرجات متفاوتة عليها.
◄ حزب المؤتمر الوطني دخل معركة كسر عظم طويلة، أثرت على مكانته السياسية السنوات الماضية من خلال تراجعه التدريجي، لأنه أهمل في معالجة الأزمات الداخلية، وانصرف عن التركيز على ملفات خارجية
حزب المعارضة الكبير (التحالف الديمقرطي) الذي حل ثانيا صاحب توجهات يمينية ويلقى دعما من الأقلية البيضاء المقدرة بنحو 20 في المئة من عدد سكان الدولة البالغ نحو 62 مليون نسمة، وتضم جماعات البيض جالية يهودية محدودة (حوالي 75 ألف شخص) ذات تأثير اقتصادي نوعي وأسهمت بدور ما في تراجع حصة المؤتمر الوطني في الانتخابات الأخيرة.
يصعب القطع بأن الحزب لقي عقابا من إسرائيل واللوبي المدافع عنها في جنوب أفريقيا، إلا أن الطريقة التي تعامل بها أمام محكمة العدل أوحت بأن هناك انتقاما أو ثأرا منها، ما أدى إلى تسليط الضوء على الكثير من الإخفاقات الداخلية من قبل بعض وسائل الإعلام التي تمول من جانب رجال أعمال بيض ويهود، خلقت أجواء مواتية لتصويت احتجاجي ضد المؤتمر الوطني صب في صالح منافسيه.
ولا توجد فجوة سياسية بين حزب التحالف الديمقراطي وبين إسرائيل، بل يملك رصيدا داعما لها، وحال انضمامه إلى الحكومة ربما نرى مستوى مختلفا من تعامل دولة جنوب أفريقيا مع محكمة العدل الدولية، وإذا بقي في المعارضة سيكون فاعلا في تقويض تحركات المؤتمر الوطني حيال بعض القضايا الخارجية.
من المتوقع أن يتراجع ما ظهر من تفاعل كبير في الجلسات التي عقدت الفترة الماضية وبدا فيها خطاب بعض المسؤولين في جوهانسبرغ حادا تجاه إسرائيل ومتمسكا بالمضي قدما في عملية المحاكمة من منطلق سياسي مبدئي، وجد تأييدا من بعض الدول ورفضا من أخرى، ودعما في الداخل ممن لهم مواقف ثابتة من الانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها فلسطينيون على أيدي إسرائيل.
كما أن الحزب الذي حل ثالثا، وهو حزب إم كيه أو (رمح الأمة) بقيادة الرئيس السابق جاكوب زوما، لن يكون على وئام تام مع حزب المؤتمر الوطني تحت قيادة الرئيس سيريل رامافوزا، وبينهما خصومة سياسية ضارية، فزوما الذي انشق عن المؤتمر الوطني احتجاجا على تصورات رئيسه في السياسة الداخلية قد يتخذ موقفا سلبيا منه على مستوى السياسة الخارجية، ويتبنى رؤية مختلفة في مسألة الإبادة الجماعية، ويرى قريبون من زوما أن المؤتمر الوطني اتخذ منها ذريعة للتغطية على فشل اقتصادي وانحراف كبير على صعيد الشفافية وارتفاع في معدل انتشار الفساد.
تشير توجهات حزب “المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية” ذي الأفكار الماركسية إلى مناصرته المؤتمر الوطني في محكمة العدل على أمل الحصول على مكاسب داخلية في المقابل، فهذا الحزب يريد السيطرة على الأراضي التي يملكها البيض وإعادة توزيعها على السود، ومواقفه حادة من التأميم والعنصرية التي تبناها الاستعمار واضحة، ما يسهم في عدم البرودة في التعامل الرسمي مع قضية الإبادة الجماعية.
◄ نتائج الانتخابات النهائية أكدت وجود ثلاثة أحزاب رئيسية يمكن أن يتحالف مع أحدها أو أكثر بدلا من اللجوء لأحزاب صغيرة، ما يعني عدم تمكنه من تمرير سياساته كما كانت
الحاصل أن الرئيس رامافوزا استثمر في استهداف إسرائيل، واستفاد من سياسة حزب المؤتمر الوطني التاريخية المناهضة للعنصرية، حيث عانى الحزب من خلل هيكلي داخله، ظهرت ملامحه في نتيجة الانتخابات السابقة، وازدادت تجلياته حدة في الانتخابات الأخيرة، فهذه المرة الأولى منذ ثلاثة عقود يخفق الحزب الحاكم في الحصول على أغلبية مطلقة، ما جعله يواجه مأزقا في اختيار الشريك الذي يمكن أن يتحالف معه، فلكل من الأحزاب الثلاثة الكبيرة حسابات متباعدة، ما يجبره على تقديم تنازلات داخلية، لن تكون تداعياتها بعيدة عن السياسة الخارجية، وفي مقدمتها الموقف من الإبادة الجماعية.
دخل حزب المؤتمر الوطني معركة كسر عظم طويلة، أثرت على مكانته السياسية السنوات الماضية من خلال تراجعه التدريجي، لأنه أهمل في معالجة الأزمات الداخلية، وانصرف عن التركيز على ملفات خارجية، يمكن أن تكون حققت له شهرة، غير أن المواطن البسيط لم تتغير أحواله، والتي ازدادت بؤسا وألما وفقرا مع فشل الكثير من السياسات في إيجاد حلول ناجعة للاقتصاد.
كما أنها مكنت قوى معارضة من استهداف الحزب الحاكم، وأدت إلى مواجهة الرئيس سيريل رامافوزا لتحديات كبيرة في معركة إعادة انتخابه مرة ثانية وأخيرة، فأحد شروط حزب زوما للتحالف مع المؤتمر الوطني اختفاء رئيسه الحالي، من هنا سيواجه الحزب مشاكل داخلية كبيرة، تفرض عليه إيجاد حلول لها، وقد يفهم انخراطه في مواجهة إسرائيل أمام محكمة العدل على أنه هروب إلى الأمام من الأزمات الداخلية.
ألقت جنوب أفريقيا حجرا كبيرا في حجر إسرائيل، وحركت المياه الراكدة داخل محكمة العدل بصورة درامية عبر دفاع محاميها القوي والسعي لتثبيت التهمة على تل أبيب، وتمكنت جوهانسبرغ من جذب أنصار لها من دول عدة، بالتالي فأي فتور يحدث في موقفها المعلن قد لا يؤثر كثيرا على مسار المحاكمة التي سلكت طريقها وقطعت شوطا لافتا، وحققت هدفها في حشر إسرائيل في وضع سياسي متأزم في ذروة المحاكمة المعلنة التي نقلت تفاصيلها أمام مشاهدين من دول مختلفة، وظهر فيها وفد جنوب أفريقيا متفوقا على نظيره الإسرائيلي.