الرئيسية / أخبار / من يجب أن يسبق من: التنمية أم الديمقراطية

من يجب أن يسبق من: التنمية أم الديمقراطية

عنوان المقال هنا هو نفس العنوان لإحدى مقالاتي في صحيفة “العرب” التي كتبتها عام 2014. كان ملخص المقالة يدور حول مناقشة الخيار الأفضل للدول العربية لتحقيق التقدم والتنمية: هل يجب أن نبدأ بتطبيق الديمقراطية أولا أم بالشروع في التنمية قبل الديمقراطية؟ في هذا المقال، استعرضت نموذجين لاثنين من المنظرين البارزين؛ الأول هو أمارتيا سن، الاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل، الذي يرى أن الديمقراطية، وفق النموذج الغربي، هي الأساس للتنمية. والثاني هو لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة السابق، الذي يؤكد أن التنمية يجب أن تسبق الديمقراطية. يشدد لي على أن الديمقراطية تنجح فقط في بيئات مستقرة ومنضبطة، مشيرا إلى أن سنغافورة لم تكن لتنجح لو طبقت الديمقراطية مباشرة بعد استقلالها، وذلك بسبب المشاكل الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والفساد المالي والإداري التي كانت تواجهها البلاد.

في المقال، انتقدت رؤية أمارتيا سن لافتقارها إلى التطبيق العملي في العالم العربي، حيث أثبتت فشلها في المنطقة كما شاهدنا في العديد من الدول مثل العراق وليبيا وغيرهما. وأكدت أن تجربة لي كوان يو هي الأنسب، بالإشارة إلى نجاح دولة الإمارات في تطبيق نموذج مشابه. فقد أثبتت التجارب أنه لا يمكن تحقيق ديمقراطية ناجحة في المنطقة دون التركيز على التنمية، ومحاربة الفساد، والتحرر من الأفكار المتطرفة مثل الطائفية والقبلية والطبقية قبل تطبيق الديمقراطية. هذا النهج هو الذي سيقود إلى تحقيق الأهداف التنموية. وعندما عرضت هذه النظريات في منتدى التنمية الخليجي الذي كان منعقدا في الكويت آنذاك، واجهت العديد من الاعتراضات، خاصة من الإخوة المثقفين والأكاديميين الكويتيين.

الآن، وبعد مرور نحو عقد من الزمن، وفي أعقاب إعلان أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح يوم الجمعة 10 مايو 2024 عن حل مجلس الأمة ووقف العمل ببعض مواد الدستور لمدة لا تزيد عن 4 سنوات، أثبتت الأحداث صحة ما ذكرته في مقالتي ودراساتي السابقة: إن تطبيق ديمقراطية سليمة مستحيل إلا بعد تحقيق التنمية، وتطهير البلاد من الفساد ومن كل معوقات التنمية، لتكون الديمقراطية مبنية على أسس صحيحة.

ثمة العديد من العوامل التي تبرر إقدام أمير الكويت على اتخاذ هذه الخطوة السياسية المهمة وغير المسبوقة. من بينها التجاذبات السياسية والشلل التشريعي، حيث أشار الأمير إلى أن “التجاذبات السياسية” بين مختلف الكتل البرلمانية أدت إلى “شلل تشريعي” عطّل عمل الحكومة وأعاق تنفيذ المشاريع التنموية، مما أضر بالمصلحة العامة وأدى إلى حالة من “عدم الاستقرار السياسي” في البلاد. كذلك، لفت الأمير إلى “ضعف الأداء الحكومي” وعدم قدرة الحكومة على اتخاذ القرارات وتحمل مسؤولياتها، مما أسهم في تفاقم الأزمات وتراجع ثقة المواطنين، ورأى أن استمرار الوضع على ما هو عليه يهدد مستقبل الكويت ويعيق تقدمها.

عبّر الأمير أيضا عن قلقه من تفاقم ظاهرة الفساد في مختلف أجهزة الدولة، مؤكدا ضرورة “محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين”. ورأى أن حل مجلس الأمة يتيح فرصة لمراجعة منظومة العمل الحكومي وتعزيز الشفافية والنزاهة. كما انتقد الأمير ظاهرة “التدخل” من قبل بعض أعضاء مجلس الأمة في صلاحيات السلطتين التنفيذية والقضائية، معتبرا أن ذلك يعيق عمل هاتين السلطتين ويهدد مبدأ الفصل بين السلطات، وشدد على ضرورة احترام الدستور والقانون وصون استقلالية كل سلطة.

كما رأى أمير الكويت أن من شأن حل مجلس الأمة أن يتيح فرصة لإجراء إصلاحات شاملة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، معبرا عن أمله في أن تسهم هذه الإصلاحات في بناء مستقبل أفضل للكويت وتحقيق تطلعات الشعب الكويتي.

تعد جميع العوامل المذكورة مهمة للغاية، ولكن الأهم في نظري هو تفاقم ظاهرة الفساد في مختلف أجهزة الدولة وضرورة مكافحته وتعزيز الشفافية. الفساد هو أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها الكويت، وقد أعرب الأمير عن قلقه من تفاقم هذه الظاهرة. يمكن أن يساهم حل المجلس في إتاحة المجال لمراجعة منظومة العمل الحكومي وتعزيز الشفافية والنزاهة، مما قد يساعد في مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين.

ففي مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، تتفاوت دول مجلس التعاون الخليجي بشكل ملحوظ في تصنيفها بناءً على مستوى الفساد المدرك في القطاع العام. تأتي دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الأولى بين دول المجلس في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، حيث حصلت على 68 نقطة من أصل 100، مما يجعلها تحتل المرتبة 26 عالميا. أما الكويت، فتأتي في المركز الأدنى بين دول المجلس، حيث حصلت على 40 نقطة فقط، مما يجعلها في المرتبة 85 عالميا. وتشير التحليلات إلى أن من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع هو عدم الاستقرار السياسي، والذي يعتبر عائقا أمام التنمية، حيث تم تشكيل 34 حكومة بين عامي 1962 و2014، بمعدل حكومة واحدة كل 18.3 شهرا.

وكأي قرار مهم، هناك ردود أفعال متباينة، فأولئك الذين استفادوا من الوضع السابق يعارضون التغييرات، في حين أن الذين عانوا منه يؤيدونه. وقد وصف بعض النقاد تحركات الأمير بأنها “انقلاب على الدستور”، معتبرين أن العائلة الحاكمة الآن تتمتع بسلطة غير مقيدة. وخمّن آخرون بأن تأثيرات خارجية من قادة الخليج العربي دفعت إلى حل البرلمان. وقد وصل بعض المعارضين إلى الاتهام الشديد، متهمين الأمير بتسهيل الطريق للتطبيع مع إسرائيل، على الرغم من فقدان مصداقية هذه الادعاءات.

من جانب آخر، أثنى المؤيدون على القرار باعتباره ضربة للقوى الإسلامية المؤدلجة وأبرزوا التناقض بين البهجة في الكويت والخيبة بين مؤيدي جماعة الإخوان والنظام الإيراني، كما شددوا على أهمية القرارات القيادية الجريئة للأمن الوطني الكويتي. بالإضافة إلى ذلك، أشار بعض المؤيدين إلى التأثير الإيجابي الفوري على سوق الأسهم الكويتية، التي شهدت ارتفاعا بنسبة 2 في المئة في أعقاب القرار. حيث ينظر المؤيدون إلى البرلمان المحلول كمصدر للتعقيد والتعطيل بدلا من التقدم.

بهذه الخطوات الجريئة التي اتخذها أمير الكويت، تتجلى الحاجة الملحة إلى تحقيق التوازن بين التنمية والديمقراطية. إن الأحداث الأخيرة تبرز أهمية النهج الذي أشرت إليه في مقالتي السابقة، حيث يجب أن تكون الديمقراطية مدعومة بأسس تنموية قوية وتطهير منظومة العمل الحكومي من الفساد والأيديولوجيات المتطرفة. تلك الخطوات تعكس استجابة القيادة للتحديات المعاصرة، وتعزز الثقة في قدرتها على قيادة البلاد نحو مستقبل مزدهر. ورغم وجود الاعتراضات، تبرز استجابة الشعب الكويتي وتفاعله مع هذه الخطوات حرصه على مستقبل بلاده، وتؤكد الحاجة الماسة إلى التوازن بين الديمقراطية والتنمية لبناء مجتمعات أكثر استقرارا وازدهارا في المنطقة. يجب أيضا أن نأخذ في الاعتبار تفرد كل مجتمع وأن لا تكون الحلول متطابقة تماما من دولة إلى أخرى، بغض النظر عن قربها جغرافيا أو ثقافيا. في حالة الكويت، ستكون التنمية ركيزة للديمقراطية وليس لإلغائها.