يقال إن الشاعر بيرم التونسي وهو يجمع حقائبه لمغادرة تونس التي وصلها بعد أن نفته مصر إلى فرنسا، جراء لسانه السليط وسياط كلماته اللاذعة، قال “يا سعد من باع داره وفي الجيب حط نصيبه وركب في البحر صغاره وإسكندرية قريبة، يا قعدتك في بر تونس كل يوم تسمع غريبة”.
كان الشاعر ينتقل مهاجرا من بلد إلى آخر، عله يجد مستراحا في بلد يتقبله ويتقبل حرية رأيه وحريته في ممارسة حريته. وحاله كحال الكثير من الفنانين والمثقفين والأكاديميين اليوم. فتونس التي هجرها بيرم التونسي، يهجرها أبناؤها يوميا، حتى أولئك الذين يعملون في قطاعات حيوية ويحصدون امتيازات، كرجال الأمن والصحة والتعليم وغيرهم.
في زمن بيرم، كانت إسكندرية وجهة للكثير من التونسيين وتحديدا أبناء صفاقس الذين طاب لهم العيش في “أرض المحروسة”، لكن اليوم حتى الإسكندرية صعب فيها العيش، وهي كغيرها من غالبية المدن العربية، استحالت فيها الحياة ويحلم أبناؤها بالهجرة. لذلك تحول المهاجرون من تونس نحو دول الخليج وأوروبا سواء بفيزا شرعية وهم يتفاخرون بصورهم في المطارات، أو بركوبهم “قوارب الموت” مخاطرين بحياتهم.
هي نسب ترتفع بشكل مخيف، فكلما سألت عن شخص قيل لك هاجر، ممثلون وفنانون وصحافيون وأطباء ومهندسون وعمال، والذي لم يهاجر خارج الوطن هجره إلى الرفيق الأعلى.
الحال الذي نحن فيه حذر منه منذ عامين تقريبا، مدير عام المرصد الوطني للهجرة عبد الرؤوف الجمل، الذي قال إن تونس ستشهد مستقبلا ارتفاعا في عدد المهاجرين من الأدمغة والكفاءات بسبب الامتيازات التي تقدمها البلدان المستقطبة لهذه الفئات مقابل عديد الصعوبات في تونس.
الحقيقة أن كثيرين من الشباب التونسي لا يهاجرون فقط بسبب الامتيازات التي توفرها الدول الغربية، فليس الجميع كان يحلم بالامتيازات المادية مقابل الابتعاد عن بيئته وعائلته ومحيطه، بل أغلب من يهاجرون اليوم يرون أن الحياة باتت صعبة مقارنة بما يعيشه العالم الخارجي. إنهم جميعا، سواء كان المهاجر متعلما أم جاهلا، يرون الآخر في جنة الدنيا وهو في جحيمها، متناسين أن في كل مكان هناك الوجهان للحياة، ولن يستقيم العيش في أي بلد دون ذلك.
يحضرني هنا قول للأديب السوداني الطيب صالح، حين كتب في رائعته “موسم الهجرة إلى الشمال” “مثلنا تماما. يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاما بعضها يصدق وبعضها يخيب. يخافون من المجهول، وينشدون الحب، ويبحثون عن الطمأنينة في الزواج والولد. فيهم أقوياء وبينهم مستضعفون، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق، وبعضهم حرمته الحياة؛ لكن الفروق تضيق وأغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء”.
لذلك سرعان ما يصطدم المهاجر بالحياة خارج وطنه ويحن إليه. وبعضهم قد يتهم مسؤولي بلاده بأنه وراء قراره للهجرة والهرب من وطن لا يتقدم نحو الأفضل.
هي كلها حجج، تحاول التمويه وإخفاء السبب النفسي الأول، الذي وضحه الطيب صالح بجملة مختصرة في كتاب “منسي: إنسان نادر على طريقته” يقول فيها “الإنسان هذا المخلوق القوي الضعيف، الغني الفقير، يبذل جهدا يائسا ليؤكد ذاته وسط وحشة الكون”.
كل هؤلاء المهاجرون فشلوا في الشعور بتأكيد الذات في أوطانهم، فقرروا محاولة تأكيدها في الخارج، هم يدركون الثمن الباهض الذي يدفعونه من أعمارهم، بعيدا عن أشخاص يحبونهم، وأمكنة كونت شخصياتهم وذكرياتهم، يدركون معنى أن يغيبوا وينساهم الأغلبية، ومعنى أن لن يتذكرهم البعض إلا في إعلان الوفاة الخاص بهم، لكن كل ذلك يهون إذا ما شعر المرء أنه نجح في إثبات ذاته وتحقيق استقرار نفسي ومادي.
لذلك يقول لك الكاتب حسن الألمعي “هاجر، ولو بينك وبين خيالك، ولو بعقلك وذلك أدنى الخلاص”.