بعد جلبةٍ كبيرةٍ رافقت تصعيداً كاد يؤدي إلى مواجهة غير مرغوبة مع إسرائيل والولايات المتحدة في ابريل/ نيسان الماضي، يبدو أن تركيز نخب إيران الآن منصرفٌ كلّياً إلى الداخل، حيث تدور معركة كسر عظم في صفوف التيار المحافظ للظفر بكرسي الرئاسة، حتى أنه لم يتبق أحد من وجوه التيار البارزين إلا وترشّح لشغل المنصب الذي شغر برحيل إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرته في 19 الشهر الماضي (مايو/ أيار). مع ذلك، لم تقع مفاجآت كبيرة بخصوص المرشّحين للانتخابات المقرّرة في 28 يونيو/ حزيران الجاري، رغم أن الأضواء تركّزت خلال اليومين الأخيرين على تقدّم الرئيس السابق، والمثير للجدل، محمود أحمدي نجاد، بملف ترشّحه، مع علمه أنه لن يمرّ من “فلتر” مجلس “صيانة الدستور” الذي كان رفض أكثر من مرّة ملفّ ترشّحه للمنصب العتيد، بسبب خلافه، وتياره القومي المتشدّد، مع المرشد في أثناء فترة ولايته الرئاسية الثانية (2009 – 2013).
إلى جانب نجاد، تركّزت الأنظار أيضًا على مرشّحي التيار الاصلاحي ممن ينوون على ما يبدو خوض غمار التجربة من جديد، متشجعين بالانقسامات الدائرة في أوساط المحافظين، وعدم اتفاقهم على مرشّح واحد، ما يعني أن الأصوات سوف تتشتّت بينهم ما يعطي فرصة للإصلاحيين للعودة إلى المشهد السياسي بعد الدمار الذي لحق بهم إثر أحداث الثورة الخضراء (2009)، واستبعادهم من جميع مراكز السلطة في البلاد بعد وفاة أبرز وجوههم (الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني عام 2017). لكن هذه الاحتمالية تعتمد طبعاً على مجلس صيانة الدستور، ففي الانتخابات الرئاسية الماضية (2021) أبعَدَ المجلس المذكور كل الأسماء البارزة من التيار الإصلاحي، والتي كانت يمكن أن تشكّل تحدّيا للمرشّح المفضّل للمرشد (إبراهيم رئيسي)، حيث جرت عمليا هندسة الانتخابات بطريقة تحتّم فوز هذا الأخير، ما انعكس سلباً على نسبة المشاركة في الاقتراع التي جاءت الأدنى في تاريخ الجمهورية (48,8%)، لأن النتائج كانت معروفة سلفاً. هل يتكرّر هذا السيناريو اليوم؟ يعتمد ذلك على حسابات المرشد، وهي مسألة سوف تتضح بعد أيام مع اصدار مجلس صيانة الدستور قائمة المقبولين.
ويعدّ مجلس صيانة الدستور، وهو جزء من نظام سياسي معقد، شأن كل شيء في إيران، أداة المرشد الرئيسة في السيطرة على أجهزة الدولة، إذ لا يمكن لمترشّح لمنصب عام، مهما علت درجته أو تدنّت، أن يمرّ من دون موافقة المجلس عليه. ويفحص المجلس أول ما يفحص درجة ولاء المترشّح للنظام. وتتأتّى سيطرة المرشد هنا من خلال صلاحيته في تعيين نصف أعضاء المجلس (ويكونون عادة من الفقهاء) من أصل 12 عضوا، فيما يختار البرلمان الستّة الباقين، ويكونون عادة من القانونيين، من بين مجموعة من الأسماء يرشّحهم رئيس السلطة القضائية، الذي يختاره المرشد بدوره.
إذا تكرّر مشهد 2021، وهو المرجّح، حيث يتولّى المرشد علي خامنئي (85 عاما) على ما يبدو ترتيب إجراءات خلافته، بدليل رفض مجلس صيانة الدستور آلاف الطلبات للترشّح لانتخابات فبراير الماضي لكل من مجلس الشورى (يراقب عمل الحكومة) ومجلس خبراء القيادة (يتولّى انتخاب المرشد). ودليل تشدّد المجلس هنا رفضه ملف ترشّح الرئيس السابق حسن روحاني لانتخابات مجلس الخبراء، وهو الذي يمكن وصفه بأي شيء إلا أن يكون إصلاحيا، أو معاديا للنظام.
إذا سارت الأمور على هذه الشاكلة، سوف تكون الانتخابات محصورة بين أعضاء النادي الواحد بين من يطلق عليهم محافظين أصوليين ومحافظين معتدلين، علماً أن القاعدة الشعبية للتياريْن، إذا استثنيا منهم أحمدي نجاد، الذي يحظى، على ما يبدو، بتأييد واضح في الأرياف وبين سكّان البلدات الصغيرة، بسبب سياساته الاقتصادية الشعبوية، لا تتجاوز، بحسب أغلب التقديرات، 20% من المجتمع الإيراني. ويعدّ سعيد جليلي، وهو أمين عام سابق لمجلس الأمن القومي، ومعروف بتشدّده، وعلي لاريجاني، وهو رئيس سابق للبرلمان ويُحسب على “المعتدلين”، أبرز الوجوه المترشّحة. وبغضّ النظر عن الأسماء، المرشد مشغول هذه الأيام بدراسة كل جوانب شخصية مرشّحه المفضل لأنه سيلعب، على الأرجح، دوراً محوريّاً في المرحلة المقبلة التي قد تشهد غياب المرشد عن الساحة بحكم تقدّمه في السن.