لا تزال دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بعيدة عن قيم التكتل السياسية والاجتماعية والاقتصادية رغم استفادتها من الأموال التنموية المرصودة لها. ويرجع محللون ذلك إلى أن سرعة التحولات السياسية والاجتماعية أكبر من قدرة المجتمعات الشيوعية السابقة على الاستيعاب.
بروكسل – بعد مرور نحو 20 عاما على انضمام ثمان من دول أوروبا الشرقية الشيوعية السابقة إلى الاتحاد الأوروبي وقبل أقل من شهرين على انتخابات البرلمان الأوروبي، تتزايد حدة التباين بين خيارات الأغلبية من شعوب دول شرق أوروبا والقواعد التي يتبناها الاتحاد الأوروبي.
ويمثل التفاوت في الدخول بين المدن الكبرى الغنية في تلك الدول والمناطق الفقيرة فيها، فشلا كبيرا لمحاولة دمج دول الكتلة الشرقية الشيوعية السابقة في منظومة قيم أوروبا الغربية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويستهل الكاتبان أندريا دودليك ودانيال هورناك في تحليل نشرته وكالة بلومبيرغ للأنباء بالحديث عن هذه القضية بالإشارة إلى قرية زاكوفيتش في شرق سلوفاكيا والتي شهدت خلال العشرين عاما الماضية تحسنا كبيرا في أوضاعها الاقتصادية، لكنها مازالت بعيدة تماما عن المستوى الاقتصادي الذي حققته العاصمة براتيسلافا.
ورغم أن القرية السلوفاكية استفادت بشدة من مشروعات البنية التحتية التي مولها الاتحاد الأوروبي طوال السنوات العشرين الماضية، فإنها ومعها الكثير من القرى المماثلة تؤيد القس الكاثوليكي ماريان كوفا الذي يتبنى أفكارا محافظة بشأن الإجهاض وزواج المثليين والمساواة بين المرأة والرجل والتي تتعارض بشدة مع القيم الليبرالية للاتحاد الأوروبي.
وقال كوفا في مقابلة مع بلومبيرغ في وقت سابق من الشهر المنقضي إن “الشيوعية سقطت لأنها كانت تحرم كل شيء، والليبرالية ستسقط لأنها تبيح كل شيء”.
وقد يكون من السهل تجاهل كوفا بدعوى أنه شخصية هامشية، لكن الحقيقة هي أن تأثيره على السياسة السلوفاكية يكشف هشاشة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والكتلة الشرقية السابقة.
وفي حين مازال معظم مواطني دول هذه المنطقة يدعمون الاتحاد الأوروبي، زرعت الأصوات الشعبوية السخط على الاتحاد والذي ترسخ بعد أن تفاقم بسبب أزمة اللاجئين عام 2015، وجائحة فايروس كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا.
وبحسب تقديرات بلومبيرغ المستندة إلى بيانات إنفاق المفوضية الأوروبية حتى 2022، ضخ الاتحاد الأوروبي حوالي 515 مليار يورو (548 مليار دولار) في الدول الشرق أوروبية الثماني ومالطا وقبرص منذ انضمام الدول العشر إليه في أول مايو 2004.
ومع ذلك تشهد دول أوروبا الشرقية زيادة غير مسبوقة في التأييد الشعبي للمجموعات السياسية المناوئة لموقف الاتحاد الأوروبي تجاه كل شيء من الهجرة، وحقوق المثليين، وحقوق النساء وحتى السياسات الخضراء التي تستهدف التصدي لمشكلة التغير المناخي.
ويقول ميلان نيك، الباحث الزميل في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية في برلين، “أتوقع أن تلعب الدول الشرقية دورا أكبر في الاتحاد الأوروبي بعد 20 عاما، ستكون قادرة على التأثير وصناعة القرار على المستوى الأوروبي بصورة أكبر، وسيكون لدى النخب السياسية في دولنا شعور أكبر بالشراكة داخل الاتحاد الأوروبي وهو ما لم يحدث في الماضي”.
وبالنسبة للمجر مازالت المفوضية الأوروبية تحجب 20 مليار يورو من مخصصاتها بسبب المخاوف المتعلقة بالفساد وممارسات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان المضادة للديمقراطية.
وتنتشر في شوارع العاصمة المجرية بودابست قبل انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في شهر يونيو المقبل، لوحات إعلانية تصور الشخصيات المعارضة لرئيس الوزراء كدمى في يد المفوضية الأوروبية، في حين تحاول الجماعات المؤيدة للاتحاد الأوروبي تشجيع المواطنين على “اختيار أوروبا”.
ويقول فيكتور أوربان إن مشروع القانون الأوروبي المقترح بشأن الهجرة هو “مسمار آخر في نعش الاتحاد الأوروبي”. أما بولندا فخضعت خلال السنوات الثماني الماضية لحكم حزب القانون والعدالة اليميني القومي المناوئ للاتحاد الأوروبي.
وسعى ذلك الحزب إلى شيطنة الاتحاد الأوروبي بدعوى سعيه لفرض “قيمه الليبرالية” على دول لا تريدها، في الوقت الذي ساعدت أموال الاتحاد الأوروبي في زيادة الناتج المحلي لبولندا بنسبة 50 في المئة تقريبا خلال سنوات حكم الحزب المناوئ للاتحاد.
والآن تحاول الحكومة الجديدة برئاسة دونالد تاسك إزالة آثار 8 سنوات من حكم حزب القانون والعدالة.
ورغم أنه يمكن القول إن سلوفاكيا تعتبر واحدة من أفضل قصص انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي بعد أن حققت نموا اقتصاديا بمعدل 3.3 في المئة سنويا في المتوسط على مدى 20 عاما، فإن التفاوت الكبير في متوسط دخل الفرد بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية فتح الباب أمام تزايد شعبية الأفكار المحافظة المناوئة للاتحاد الأوروبي مثل أفكار القس كوفا.
وفي العام الماضي عاد رئيس الوزراء السابق روبرت فيكو إلى الحكم في سلوفاكيا باعتباره صوتا مناوئا للاتحاد الأوروبي. ووضع موقفه الودي تجاه روسيا بلاده في أزمة مع باقي دول الاتحاد، وهدد بتحطيم وحدة أوروبا في مساعدة أوكرانيا للتصدي للغزو الروسي لأراضيها. كما أنه يسخر علانية من القضايا المتعلقة بحقوق المرأة بشكل عام.
ونجح فيكو في تشكيل حكومة ائتلافية بفضل الحزب القومي السلوفاكي الذي يؤيده كوفا. كما يدعي القس المحافظ أن دعمه ساعد بيتر بليجريني حليف فيكو في الفوز بانتخابات الرئاسة السلوفاكية خلال الشهر المنقضي.
ومن الواضح أن التفاوت الاقتصادي بين المدن والريف في شرق أوروبا كبير بصورة خطيرة.
وبحسب بيانات وكالة الإحصاء الأوروبي يعادل نصيب الفرد في العاصمة السلوفاكية براتيسلافا من إجمالي الناتج المحلي 146 في المئة من متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي على مستوى الاتحاد الأوروبي، في حين يصل نصيب الفرد في المنطقة التي تضم قرية زاكوفيتش 52 في المئة من متوسط نصيب الفرد على مستوى الاتحاد الأوروبي.
وهذه الأوضاع تعزز مشاعر السخط ضد الاتحاد الأوروبي بشكل عام وأوروبا الغربية بشكل خاص. وتقول مسنة سلوفاكية تبلغ من العمر 81 عاما واسمها هيلينا “إن أوروبا الغربية هي المسؤولة عن تدهور مستوى البطاطس، وأزمة الإسكان، والبطالة بين الشباب في بلادها” وتضيف “كل شيء كان أفضل في عهد الشيوعية”.
ويقول الشاب السلوفاكي راستيلاف باستيريك (29 عاما) الذي يعيش في قرية هونكوفيتش القريبة من زاكوفيتش إن عضوية الاتحاد الأوروبي أمر إيجابي لأنها تعني قضاء 5 سنوات في العمل بإحدى دول الاتحاد الأخرى والحصول على وظيفة جيدة في شركة دولية.
ويضيف “نحن لم نستعد لقطار الديمقراطية الليبرالية الذي ركبناه… النتيجة أن الحديث عن مزايا عضوية الاتحاد الأوروبي اختفى”.