شهدت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة خلال الساعات القليلة الماضية حزمة من المستجدات والتطورات التي أثارت الكثير من التساؤلات عن دلالاتها وما تحمله من مؤشرات بشأن مستقبل تلك الحرب التي تجاوزت الـ180 يومًا، على رأسها موافقة حكومة الاحتلال على زيادة عدد الشاحنات الإنسانية المقدمة لقطاع غزة إلى 500 يوميًا وزيادة عدد ساعات عمل معبر إيريز، والسماح بإدخال المزيد من الوقود لتشغيل المخابز والمستشفيات وتشغيل خط المياه لشمال غزة، كما جاء على لسان وزير الخارجية البريطانية.
كذلك ما بثته إذاعة الجيش الإسرائيلي عن منح مجلس الحرب الإسرائيلي المصغر (الكابينت) وفد التفاوض صلاحيات إضافية لإبرام صفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية وذلك بعد اجتماع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بذوي مجندات محتجزات في غزة.
تأتي تلك المرونة النسبية في الموقف الإسرائيلي بعد مكالمة أجراها الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيس حكومة الاحتلال، وُصفت بأنها الأصعب منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي من حيث اللهجة والمضمون بحسب وصف موقع “أكسيوس” الأمريكي، نقلًا عن مصادر مطلعة.
اللافت هذه المرة أن رد فعل نتنياهو بعد المكالمة مع بايدن لم يكن كما كان في المرات السابقة حين كان يخرج بتصريحات تتضمن نبرة تحد وإصرار على مواصلة نهجه دون الاستماع لأي أصوات خارجية.. فما الذي تغير؟ وما الدلالات التي تحملها تلك المؤشرات؟
خمسة ضغوطات
لا يمكن قراءة ما قد يُسمى اعتبارًا بـ”المرونة الإسرائيلية” بمعزل عن خمسة ضغوطات أساسية تتعرض لها حكومة نتنياهو خلال الآونة الأخيرة، كان لها – رغم تقليل البعض منها – تأثيرها الواضح في دفع الكابينت لتقييم الموقف وإعادة النظر في صلفه وعناده.
أولًا: المجتمع الدولي
– فحالة التناغم وتطابق الرؤى بين معظم أعضاء مجلس الأمن والأمم المتحدة بشأن ضرورة وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات للقطاع وإدانة الإجرام الإسرائيلي، ورغم تبني واشنطن لحق الفيتو أكثر من مرة إزاء مشروعات قرارات تطالب بوقف إطلاق النار، فإن المجلس نجح في تمرير قرار – دون الفيتو الأمريكي – يطالب بإدخال المساعدات والاعتراف بالانتهاكات الإسرائيلية في خطوة كان لها الكثير من الصدى.
– تبنى مجلس حقوق الإنسان في جنيف قرارًا يدعو جميع الدول إلى وقف بيع ونقل وتحويل الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية إلى “إسرائيل”، وذلك بأغلبية 28 صوتًا، واعتراض 6 دول وامتناع 13 دولة عن التصويت.
– ضغوط محكمة العدل الدولية وإصدارها لقرارات وتوصيات جديدة بشأن الإجراءات الاحترازية التي يجب على حكومة الاحتلال مراعاتها لوقف جريمة الإبادة التي تشنها ضد الفلسطينيين المدنيين، واتساع رقعة الدعم الدولي للدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” بتهمة ارتكاب إبادة جماعية بغزة، حيث طلبت كولومبيا بشكل رسمي التدخل كطرف في تلك الدعوى.
ثانيًا: أمريكا وحلفاء “إسرائيل”
– لاعتبارات دعائية وسياسية أكثر منها أخلاقية، تمارس إدارة جو بايدن ضغوطها على حكومة نتنياهو لإبداء المزيد من المرونة إزاء إدخال المساعدات في القطاع وتقليل فاتورة الضحايا المدنيين لا سيما العاملين في مجال الإغاثة، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتهديدات التي يتعرض لها بايدن وحزبه جراء دعمه اللامحدود لحكومة الاحتلال.
– خلال الساعات الماضية طالب 40 نائبًا ديمقراطيًا في رسالة مشتركة لبايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، بوقف نقل أسلحة لـ”إسرائيل” بعد مقتل 7 عمال إغاثة تابعين لمؤسسة “المطبخ المركزي العالمي” بغارة في غزة استهدفت مركباتهم رغم التنسيق مع الاحتلال ووضع الشارات والعلامات التي تكشف هويتهم وانتماءهم للمؤسسة.
– التهديد ذاته لوح به السيناتور بيرني ساندرز، حين خاطب رئيس حكومة الاحتلال قائلًا إنه إذا لم تصل آلاف الشاحنات لإطعام الجوعى بغزة فستتوقف كل المساعدات العسكرية الأمريكية المقدمة للكيان والتي يعتمد عليها في المقام الأول في الحرب التي استنزفت معظم ترسانته التسليحية.
– بالتزامن مع تلك الضغوط من المتوقع أن يتجه مدير جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) وليام بيرنز، إلى القاهرة في مسعى لتحقيق انفراجة بشأن اتفاق التبادل بين حماس وحكومة الاحتلال، فمن المتوقع أن يلتقي نظيره المصري والإسرائيلي بجانب رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري.
– وفي السياق ذاته يمارس عدد من حلفاء تل أبيب الأوربيين ضغطًا على حكومة الاحتلال لإبداء المزيد من المرونة على رأسهم بريطانيا وفرنسا، لا سيما بعد حادثة استهداف فريق المطبخ العالمي، حيث بدا بعض التغير على الخطاب السياسي والإعلامي لحلفاء الكيان المحتل فيما يتعلق بالموقف من سياسة نتنياهو وصلفه وعناده وتوسعته لدائرة الصراع وتعميقه للكارثة الإنسانية في القطاع والتي أحرجت الجميع أخلاقيًا أمام الرأي العام العالمي.
ثالثًا: الداخل الإسرائيلي
– يمارس الشارع الإسرائيلي ضغوطًا على نتنياهو وحكومته بشأن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، حيث تكثف عائلات المحتجزين – وما انضم إليهم من شرائح عدة من الإسرائيليين المتعاطفين معهم – من فعالياتها الاحتجاجية، بعضها تجاوز السقف المتوقع، مطالبين بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة.
– كما أن سياسة حكومة الحرب وإدارتها للمعركة فيما يتعلق بتوسيع دائرة المواجهة لتشمل لبنان والعراق واليمن، كان له صداه على الداخل الإسرائيلي الذي زاد قلقه الأمني جراء تلك السياسات التي يحاول نتنياهو من خلالها إطالة أمد الحرب لتأجيل حسم مستقبله السياسي المتوقع أن يكتب نهايته بنهاية تلك الحرب.
– وقد أسفرت تلك السياسات عن إصابة الداخل بحالة من الهلع والترقب للضريبة التي من المحتمل دفعها، خاصة بعد تبني إستراتيجية استهداف القيادات الإيرانية في سوريا ولبنان، حيث ألغى جيش الاحتلال إجازات الاحتياط وكثف من معدلات التجنيد بخلاف إغلاق 28 سفارة وقنصلية إسرائيلية بشكل مؤقت بسبب تهديدات #إيران ووكلائها وفق ما نقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” عن مصدر إسرائيلي.
رابعًا: الرأي العام العالمي
– لأول مرة منذ عقود طويلة تواجه دولة الاحتلال رأيًا عامًا عالميًا غاضبًا من سياساتها ومنددًا بجرائمها بحق الفلسطينيين بهذا الزخم الذي بدا عليه منذ بداية الحرب الحالية، حيث مئات التظاهرات والاحتجاجات التي احتضنتها شوارع وعواصم العالم، حتى تلك الداعمة حكوماتها للحرب وللكيان المحتل.
– وفي المقابل لم تعرف القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني هذا الزخم العالمي منذ سنوات طويلة، فقد عادت القضية مرة أخرى لتتصدر قائمة اهتمامات العالم بعد تجاهل دام طويلًا، وهو الكابوس الذي أصاب الاحتلال وقيادته بالصدمة، حيث أطاح بجهد أعوام طويلة أنفق فيها المحتل وأعوانه مئات المليارات لتجهيل القضية وطمسها.
– وساهم هذا الرأي العام المناهض لـ”إسرائيل” في الضغط على الحكومات والأنظمة، ما كان له انعكاساته بطبيعة الحال على الموقف الدولي إزاء تل أبيب، حيث تواجه عزلة دولية لم تعرفها منذ سنوات طويلة، وتحولت من الدولة الديمقراطية ذات الصورة المشرقة مدنيًا وحقوقيًا إلى الدولة المنبوذة التي تضع داعميها في مرمى الاستهدافات الأخلاقية والحقوقية، وهو ما يفسر حالة الهبوط الحاد في مستوى الدعم الدولي لها مقارنة ببداية الحرب.
خامسًا: المقاومة وصمود الغزيين
– فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه من الحرب حتى الآن رغم مرور 6 أشهر على بدايتها، يمثل عامل ضغط كبير عليه، فلا هو حرر أسراه ولا قضى على حماس ولا جعل من قطاع غزة منطقة آمنة لا تشكل تهديدًا للداخل الإسرائيلي.
– فبعد مرور أكثر من 180 يومًا على الحرب لم تزل رشقات المقاومة الصاروخية تقصف عسقلان ومدن غلاف القطاع، ولم تزل صافرات الإنذار تدوي في العديد من المناطق الإسرائيلية، هذا بخلاف الفشل في السيطرة على أي من مناطق القطاع كما زعم قبل ذلك، فالشمال الأقرب إليه يشكل حتى اليوم منطقة تهديد، وتنشط فيه المقاومة بشكل أو بآخر، كذا الوضع في الوسط والجنوب.
– وفي السياق ذاته فإن صمود الغزيين هو الآخر يمثل عامل ضغط كبير أمام الاحتلال في إجهاض مخططات التهجير التي حاول تمريرها بشتى السبل، فإصرار أهل غزة على البقاء في منازلهم والعودة إليها حتى بعدما تحولت إلى ركام وبقايا بنايات، ودفاعهم عن هذا الهدف بحياتهم وأرواحهم كان أمرًا صادمًا للمحتل الذي توهم أن آلة القتل والتدمير الوحشية قادرة على تحقيق أهدافه.
مماطلة وتسويف
رغم أنه من الصعب تجاهل تلك الضغوط الخمس في قراءة المستجدات التي شهدتها ساحة المواجهة خلال الساعات الماضية، وإجبار نتنياهو على الرضوخ وإبداء مرونة نسبية إزاء ملفي المساعدات والمفاوضات، فإن تلك القراءة ليست الوحيدة لتفسير ما حدث.
فمنذ اليوم الأول للحرب يتعامل نتنياهو مع المعركة بشكل شخصي، معركة وجود وبقاء أكثر منها معركة نصر وهزيمة، فهو يؤمن أن إنهاء الحرب دون تحقيق أهدافها الثلاث المعلنة تعني نهايته السياسية، لذا يستميت بدعم من اليمين المتطرف في إطالة أمد تلك الحرب، إما بإجهاض وعرقلة المسار التفاوضي وإما إشعالها أكثر من خلال توسعة دائرتها وتمديد رقعتها بما يتجاوز جغرافيا القطاع.
وعليه فمن المحتمل أن يكون هذا التراجع، إن جاز تسميته كذلك، في الموقف الرسمي المتعنت، والتخلي مرحليًا عن الصلف والعناد المعتادين منذ بداية الحرب، محاولة جديدة للتسويف وطمأنة المجتمع الدولي والحلفاء، وإيهامهم بالرضوخ للإملاءات المطلوبة بشأن إدخال المساعدات، دون وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، بما يمنحه المزيد من الوقت لتحقيق أوهام الانتصار المزعوم.
وفي الأخير.. فإن كان الوقت ليس في صالح المقاومة كونه يستنزف ما لديها من قدرات في ظل تجفيف منابع الدعم، ويعمق من حجم المأساة الإنسانية، فإنه كذلك ليس في صالح الاحتلال الذي يعاني واقعًا مأزومًا، ويواجه ضغوطًا وتحديات تهدد بتمزيق جبهته الداخلية، وفرض المزيد من العزلة، ونسف المكتسبات التي تحققت خلال السنوات الماضية، والخاصة باتساع جبهة التطبيع وتحقيق حلم الانخراط في المجتمع العربي والشرق أوسطي.
وعليه تبقى قراءة تلك المستجدات الأخيرة وما يسمى إعلاميًا بـ”المرونة النسبية” في موقف حكومة الاحتلال، مشروطة بما يمكن أن تسفر عنه الأيام المقبلة، وما يرافقها من ممارسات وإجراءات ميدانية، ليُكشف النقاب عما إذا كان ما حدث رضوخًا حقيقيًا لحزمة الضغوط التي تواجه الكيان أو مماطلة جديدة لكسب المزيد من الوقت وكسر موجة الانتقادات الدولية الحادة.