سأعترف بأنها تُضحكني، تلك الصفة التي يطلقها بعضُ العرب على أنفسهم أو يطلقها آخرون عليهم، إذا ما أتاح لهم ظرفٌ ما تحقيق شهرةٍ في مجالهم، في مكانٍ ما، خارجَ حدودِ أوطانهم، وهي صفة العالمية التي تعني بالنسبة لهؤلاء أنّهم باتوا مشهورين ومعروفين على نطاقٍ عالمي، وغالباً ما يكون هؤلاء يعملون في المجالات الفنية أو الأدبية أو الرياضية، وهي مهن فردانية إلى حدٍّ كبير، والإبداع فيها يعتمد على قدرات الشخص وموهبته وقدرته على التطوّر، الأمر الذي يُساعده على الانتشار والشهرة إذا ما توفّرت حوله ظروفٌ مناسبة نقلته من مكانٍ إلى آخر، ومن مكانةٍ إلى أخرى، والعالميون الحقيقيون من هؤلاء، من بني العرب، لا يتعدّون عددَ أصابعِ اليد الواحدة، من قلّتهم وندرتهم. وهنا عن المؤثّرين الحقيقيين الفاعلين واقعيًا، لا عن المشاهير الذين اشتهروا نتيجةَ ثورةِ التقنيات الحديثة ووسائل التواصل التي أفرزت نماذج من المشهورين على مستوى العالم، ممن لا منجزَ لهم سوى الظهور الافتراضي في عالمٍ افتراضي عجيب وغريب.
من هو العالمي أو من هو الذي يستحق هذا الصفة؟ بالمعنى البسيط، العالمي هو الشخص المشهور والمعروف على مستوى العالم، بغضِّ النظر عن موطنِه أو لغته أو أيديولوجيته. ومبدئيّاً، من يحقّقون هذه الشروط، أولًا هم زعماء العالم ورجال السياسة وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة، بغضِّ النظر عن سجل هؤلاء الأخلاقي والإنساني: هتلر مثلاً، زعيم عالمي مثله مثل غيفارا، الاثنان معروفان ومشهوران على مستوى العالم كلّه، ولدى غالبية شرائح البشر، بشّار الأسد أيضاً عالمي، مثله مثل الشاب التونسي البسيط والفقير، محمّد البوعزيزي، الذي أطلق شرارة الربيع العربي. إذًا، صفة العالمية ليست بالضرورة أن تدل على معنى إيجابي أو امتياز يمكن التفاخر به. فقد تكون شهرة أحدهم أتت من فرط إجرامه.
يأتي بعد السياسيين نجومُ التمثيل والغناء والفن والرياضة حول العالم، هؤلاء أولًا، يمتلكون مواهب استثنائية مُدعمةً بخبرةٍ ونشاطٍ وتدريبٍ متواصلٍ وصلةٍ يوميةٍ بجديدِ العالم المتعلّق بمجالاتهم الإبداعية، مسنودين أيضاً إلى مؤسّسات إنتاجية ضخمة مُسوّقة لهم، وداعمة مواهبهم وإمكاناتهم المتفرّدة. وللأسف، ليس لدينا في عالمنا العربي من هؤلاء إلا النوادر كأم كلثوم وفيروز في الفن الغنائي، وعمر الشريف في التمثيل، ومحمد صلاح في الرياضة، أمثلة على استثناءات قليلة في عالمنا العربي. وهنا تخطر لي المقارنة بين مغنّية لبنانية بدأت تُعرّف نفسها بالعالمية لمجرّد أنّها غنّت في حفلِ افتتاحِ كأسِ العالم في قطر وشاكيرا المطربة الكولومبية لبنانية الأصل، فبينما الأولى تحاول تقليد شاكيرا بالمظهر العام وحركات الرقص (رغم أنّها أقلَّ لياقةً وليونةً بكثيرٍ من شاكيرا) بموسيقى وكلمات هزيلة، تتفرّد الثانية بأنّها مؤلفة موسيقية وموّزعة وكاتبة أغان ومغنية وراقصة، أي أنّها ظاهرة حقيقية تستحق عن جدارة لقب مغنية عالمية.
وفي الأدب، لسوء حظنا أنّ من وصلوا إلى الشهرة العالمية بمعناها الحقيقي يمكن اختصارهم بقلّة قليلة، نجيب محفوظ وأدونيس ومحمود درويش وإدوارد سعيد الذي كان يكتب باللغة الإنكليزية، هؤلاء فقط هم المعروفون على مستوى العالم من بين جميع الكتّاب والأدباء العرب. لدينا كتّاب تُرجمت أعمالهم إلى لغاتٍ عديدةٍ، لكنهم لم يحقّقوا الشهرة العالمية إلا لدى المهتمين بمجال الأدب والكتابة، بمعنى أنّهم لم يصبحوا عُموميي الانتشار حول العالم مثل، مثلًا، التركية إليف شفق أو الياباني هاروكي موراكامي، رغم تصنيف الكاتبيْن ضمن قائمة “الأكثر مبيعاً” التي لا يعتدّ بها في قائمةِ الأدبِ الرصين عادة.
ثمّة معنى آخر للقب العالمي، وهو قدرة الشخص على التأثير الفكري أو النفسي أو الفني أو العلمي أو المادي لدى شرائح بشريةٍ واسعةٍ ومختلفةٍ في العالم، بمعنى آخر، تمكّنه من إحداث أثر أو تغيير كبير وواضح المعالم في مفهوم أو قيمة ما، أو أن يكون له مساهمة ملهمة ومؤثرة في بناء نهضة أو حضارة البشرية في مستوى ما من مستويات الفكر والعلم والفن. تحضُرني هنا المعمارية العراقية الراحلة، زها حديد، مثالاً على هذا التأثير في عصرنا الحديث، كونها تمكّنت من إضافة مفاهيم جديدة إلى الهندسة الفراغية عبر تصميماتها المعمارية الفريدة والاستثنائية، فهل لدينا من يشبهها بتأثيرها؟