تتضمّن السردية التي تصدّرها إسرائيل إلى العالم عن تجهيزها لاجتياح مدينة رفح أن كل ما حصل منذ 7 أكتوبر، ما لم يتم تتويجه باجتياح رفح، سيكون عملاً ناقصاً، وربما يعود بضررٍ بالغ على أمن إسرائيل، وأن إقفال ملفّ الحرب والشروع في إجراءات اليوم التالي، أو اليوم الذي ينشغل العالم بالتخطيط له، متوقّفٌ، بدرجة كبيرة، على واقعة اجتياح رفح، والتي جرى تحديد بداية رمضان موعداً لها في حال لم تسلّم “حماس” الرهائن الإسرائيليين.
تحاول إسرائيل تعزيز سرديتها تلك عبر تدعيمها بافتراضاتٍ تبدو منطقيةً من حيث الشكل، من نوع أن “حماس” لا بد أنها نقلت جميع الأسرى إلى رفح، على اعتبار أن إسرائيل أجرت مسحاً شبه شامل لمناطق غزّة الأخرى، بالإضافة إلى أن “حماس” نقلت نخبة قوّاتها وأسرارها العسكرية وقياداتها الميدانية والسياسية إلى رفح، وأن تدمير الحركة من جذورها وإنهاء خطرها يستدعي اجتياح رفح حتماً، وثمّة هدف مبطّن لدى حكومة نتنياهو يتمثل في أن عدم تحقيق النصر العسكري الصريح في هذه الحرب، حتى اللحظة، يتطلب اجتياح رفح، والقول إن الجيش الإسرائيلي اخترق القطاع من شماله إلى جنوبه من دون عوائق، ما يعني استعادة الردع الذي خسره، حتى لو لم يستطع تحقيق الأهداف المعلنة، مثل القضاء على قيادات حماس واستعادة الأسرى.
ليس سرّاً أن العالم من شرقه إلى غربه، حتى واشنطن الداعمة الكبرى للعملية الإسرائيلية، يضع يدَه على قلبه من تنفيذ إسرائيل اجتياحها رفح، إذ تذهب التقديرات العسكرية والسياسية كلها باتجاه حصول كارثة غير مسبوقة، ستكون لها تداعيات غير محسوبة، ففي منطقة ضيقة وصغيرة أكثر من مليون نازح ومواطن، وإمكانية حصول مجازر كبيرة بالنظر إلى التكتيكات العسكرية التي استخدمتها إسرائيل في حربها على غزّة سيكون احتمالاً مؤكّداً، الأمر الذي ستنتج عنه تفاعلات كبيرة، على المستويين الإقليمي والدولي، وتداعيات كبيرة على مصالح واشنطن ومساعيها إلى إعادة تشكيل المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب.
من شأن الهجوم على رفح، وما سينتُج عنه من تداعيات، وضع الأطراف العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل أمام خيارات صعبة
وينطوي الموعد الذي ضربته إسرائيل لاجتياح رفح على إشكاليةٍ، لا بد من أن دوائر واشنطن قد تنبّهت لها، فاختيار شهر رمضان لتنفيذ التهديد الإسرائيلي وارتكاب المجزرة في رفح أمر تدرك واشنطن تداعياته الخطيرة، في وقتٍ تواجه صعوباتٍ كبيرة في تأمين الغطاء السياسي للعملية العسكرية، ومن ثم تتخوّف من عدم قدرتها على ضبط التداعيات وإمكانية بروز مسارات جديدة للصراع في المنطقة وتوسّعه بشكلٍ قد يدفعها إلى التورّط في صراعٍ يستعدي شعوب المنطقة، في وقتٍ تحاول فيه واشنطن إعادة صياغة الأوضاع في المنطقة وإعادة ضبطها بعد الانزياحات التي شهدتها أخيراً، سواء لتعاظم حجم الاختراقات التي يحقّقها فاعلون دوليون في المنطقة نتيجة انحياز سياساتها، أو جرّاء تقديرها أن المناخ يبدو مناسباً لظهور تنظيمات متطرّفة نتيجة الجرائم الإسرائيلية في غزّة.
بالإضافة إلى ذلك، قد تغامر إسرائيل بإنهاء جميع الترتيبات التي وصلت إليها على مدار العقود الأربعة الماضية، إذ من شأن الهجوم على رفح، وما سينتُج عنه من تداعيات، وضع الأطراف العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل أمام خيارات صعبة، قد يكون أسهلها تجميد العلاقات مع إسرائيل وإلغاء أي اتفاقيات محتملة معها في المدى المنظور، وقد حذّرت أغلب الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل من الإقدام على خطوة اجتياح رفح، ولا ترغب في الظهور أمام شعوبها بمظهر المتواطئ على غزّة، ولا تريد منح إيران نقاطاً مجانية في صراعها على كسب التأثير وإثبات مدى صدقية خياراتها في مقاومة إسرائيل ومخطّطاتها في المنطقة.
تصر حكومة نتنياهو على أن مصالح الأمن الإسرائيلي في قمة أولوياتها، بالإضافة إلى مراعاة التوازنات الداخلية
في المُعلن والعام، لا يبدو أن حكومة نتنياهو تعطي وزناً لكل هذه المخاوف الأميركية والإقليمية، وتصرّ على أن مصالح الأمن الإسرائيلي تقع في قمّة أولوياتها، بالإضافة إلى مراعاة التوازنات الداخلية، والانسجام مع توجّهات المجتمع الإسرائيلي، ومن ثم تستدعي جميع هذه الاعتبارات من حكومة نتنياهو الذهاب في حرب غزّة إلى حد اجتياح رفح وتحقيق مصفوفة الأهداف التي تم إعلانها.
تبدو الأمور، على أرض الواقع، مخالفةً تماماً لتنفيذ عملية اجتياح رفح، حيث سحب الجيش جزءاً كبيراً من قواته، وهو أمرٌ يبدو غير متوافق مع ادّعاء حكومة نتنياهو أن صفوة قوّة “حماس” وكوادرها المهمّة باتت في رفح، إذ، وفق ذلك، ستكون المعركة لحركة حماس معركة حياة أو موت، ما يستدعي أن تهيّئ لها إسرائيل أفضل الإمكانات واحتياطياً كبيراً على مستوى العنصر البشري أو التسليح، لا أن تسحب قواتها وتلوّح بإشعال حربٍ على جبهة جنوب لبنان، كما أن حكومة نتنياهو ما فتئت تتحدّث عن تطوير علاقاتها مع الدول العربية المطبّعة، بل تحقيق اختراقاتٍ مهمّة في هذا السياق عبر إضافة دول جديدة إلى قائمة المطبّعين، وهي تدرك أن ارتكاب خطأ اجتياح رفح، إن لم يدفع هذه الدول إلى إلغاء علاقاتها مع إسرائيل، فسيجمّد هذه العلاقات وقتاً طويلاً تحت ضغط تداعيات مجازرها في رفح.
الأرجح، أن تلوّح حكومة نتنياهو بعملية الاجتياح، للضغط أولاً على “حماس” ودفعها إلى الاستسلام، أو من أجل تعظيم موقفها التفاوضي، والحصول على مكاسب من أميركا والدول العربية، خصوصاً أن إسرائيل تضع في اعتبارها أن اجتياح رفح، حتى لو تم تنفيذه، قد تكون له نتائج كارثية عليها من حيث أعداد قتلاها وجرحاها في صفوف الجيش، بالإضافة إلى حصول انفجار في الضفّة الغربية يربكها في هذه المرحلة، مقابل عدم تحقيق أيٍّ من أهدافها لا في استعادة المخطوفين ولا في القضاء على يحيى السنوار.