نتائج التحقيق الكامل في كارثة الاستخبارات الإسرائيلية في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، قد تكون بعد سنوات، لكن الدروس المستفادة منها بدأت بالفعل في تشكيل الحملة العسكرية التي لا ترحم والتي تشنها إسرائيل بهدف “تدمير حماس”، العدو الذي أدركت إسرائيل أنها لم تعد قادرة على احتوائه.
هكذا ترصد صحيفة “فايننشال تايمز“، في تقرير ترجمه “الخليج الجديد”، نحو 3 أسباب رئيسية، لفشل الاستخبارات الإسرائيلية في التعاطي مع عملية “حماس” المفاجئة، ما يشير إلى خلل أساسي في الجهاز.
وتحكي الصحيفة، صراع مناحيم والذي كان جزءًا من فريق من المتطوعين، الذين قاموا بمراقبة شبكات الاتصالات في غزة ووسائل الإعلام العربية لمدة عامين، ونقلوا شذرات من المعلومات إلى الجيش الإسرائيلي.
وعلى الرغم من أن فريقه كان تربطه بعلاقات شبه رسمية، مع الاستخبارات، إلا أنهم عندما حذروا مرارا وتكرارا من أن مقاتلي “حماس” كانوا يجرون مناورات حربية معقدة بالقرب من الحدود، تم تجاهل المتلصصين الهواة.
وتنقل الصحيفة عنه القول: “قال لنا الضابط العسكري الإسرائيلي: أنتم لستم مهمين، ولسنا بحاجة إليكم”.
كما نقلت ضابط المخابرات العسكرية السابق مايكل ميلشتاين، حديثه لزملائه السابقين وكتابته العديد من المقالات في الصحافة، قائلاً إن “النهج الذي تتبعه إسرائيل تجاه حماس لم يكن ناجحاً، ولكن لم يعره أحد الكثير من الاهتمام”.
وأضاف ميلشتاين، وهو المستشار الحكومي السابق للشؤون الفلسطينية في غزة والضفة الغربية: “كانت الكتابة على الحائط.. حماس كانت تبشر بالحرب”.
وتابع: “حتى التحذيرات الصادرة عن هيئة الاستخبارات القتالية الإسرائيلية، التي تراقب حدود البلاد مع غزة، تم تجاهلها”.
كما قالت إحدى الجنديات، وتدعى نوا ميلمان، لرؤسائها في وقت سابق من هذا العام، إن مقاتلي حماس كانوا يمارسون هجمات على سياج وهمي، ويفجرونه مراراً وتكراراً.
وأضافت في مقابلة تلفزيونية لاحقة: “لكن الجميع تعاملوا مع الأمر وكأنه أمر طبيعي.. وكأنه روتيني”.
في 7 أكتوبر/تشرين الأول، شنت حماس هجوماً أسوأ حتى من أحلك هواجس مناحيم وميلشتاين وميلمان.
ففي حوالي الساعة 6:30 صباحًا، وتحت غطاء وابل صاروخي ضخم، قام أكثر من 1500 من مقاتلي حماس بتدمير الاتصالات الحدودية الإسرائيلية بطائرات بدون طيار محملة بالمتفجرات، واخترقوا الحواجز الأمنية بالجرافات، وداهموا الأراضي الإسرائيلية بالدراجات النارية والطائرات الشراعية.
لقد أدى الهجوم المتزامن إلى تحطيم ثقة إسرائيل في جيشها وأجهزتها الاستخباراتية.
ولم يقتصر الأمر على فشلهم في تتبع ما كان يخطط له أحد أعدائها الرئيسيين، بل تجاهلوا تحذيرات متعددة مفادها بأن “حماس” كانت تستعد لهجوم كبير، وغالباً ما يكون ذلك على مرأى من الجميع.
وقال رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، إن إسرائيل عانت من “الثقة المفرطة التي أدت إلى الغطرسة، مما أدى إلى الرضا عن النفس”.
وأضاف: “لقد فعلت بنا حماس ما نفعله عادة: المفاجأة، والذكاء، والتفكير خارج الصندوق”.
فيما قال مسؤول إسرائيلي كبير: “حتى في ليلة الهجوم، شممنا أن شيئًا ما كان يحدث، لكن التفسير كان أنه مجرد مناورة عسكرية منتظمة لحماس”
وأقر بالفشل حين قال: “لقد عانت استخباراتنا من خلل أساسي”.
ووفق الصحيفة، فإن هناك عوامل كثيرة ساهمت في الفشل، أبرزها أن أجهزة الأمن الإسرائيلية استخفت بقدرة حماس على شن مثل هذه العملية واسعة النطاق مع كل الإجراءات الأمنية العملياتية المشددة والتخطيط المنضبط والمعرفة التفصيلية بالتضاريس الإسرائيلية التي تتطلبها.
وقال الرئيس السابق لجهاز المخابرات الخارجية البريطاني أليكس يونغر، إن “الإدراك المتأخر أمر رائع، ولكن يبدو أن الفشل الكبير في إسرائيل كان فشلاً في الخيال، كما كان الحال مع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001”.
وأضاف: “هناك دائمًا خطر الخلط بين ما تريد وما هو موجود بالفعل.. وشعرت إسرائيل أن حماس قد تم تجريدها من المخاطر”.
وتابع: “لقد ارتكبت إسرائيل خطأ مماثلاً قبل 50 عاماً بالضبط، قبل حرب يوم الغفران ضد مصر وسوريا، عندما اعتقدت خطأً أن الدول العربية لن تهاجم أبداً بسبب قوتها العسكرية”.
ولكن هناك تطوراً تاريخياً إضافياً في هجوم هذا العام، والذي قارنته إسرائيل في كثير من الأحيان بهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على أمريكا، فتقرير 11 سبتمبر/أيلول، وهو الرواية الرسمية للحكومة الأمريكية لما حدث، أعرب عن أسفه لأنه لم يتوقع أي مسؤول أمني أن الإرهابيين قد يقودون طائرات إلى مباني أمريكية كبيرة، على الرغم من أن العديد منهم قالوا إنهم قرأوا رواية توم كلانسي عام 1994 والتي تبلغ ذروتها بهذا المشهد.
وعلى نحو مماثل، قبل أن تشن حماس هجومها في 7 أكتوبر/تشرين الأول، رفض آفي يسسخاروف، الذي شارك في تأليف المسلسل التلفزيوني الإسرائيلي الشهير “فوضى”، مخططاً محتملاً لإحدى الحلقات التي اقتحم فيها مقاتلو “حماس” السياج الحدودي وهاجموا إسرائيل، معتبراً ذلك غير قابل للتصديق.
ويبدو أن أجهزة الأمن الإسرائيلية فكرت في الأمر نفسه، فما هي احتمالات أن يتمكن العشرات، ناهيك عن الآلاف، من القيام بذلك دون المخابرات العسكرية أو الشاباك (جهاز الأمن الداخلي) معرفة ذلك؟.
ويتذكر يساخاروف ما قاله لكتاب السيناريو في ذلك الوقت: “دعونا نمضي قدمًا ونجد شيئًا أكثر واقعية”.
أما السبب الثاني لفشل إسرائيل، وفق الصحيفة، فهو ما وصفه أحد المسؤولين الغربيين بـ”الغطرسة التكنولوجية، والإيمان متعجرف بأن التكنولوجيات المتقدمة، مثل الطائرات بدون طيار التي تتنصت على غزة والسياج المجهز بأجهزة استشعار والذي يحيط بالقطاع، سوف تتفوق على القدرات التكنولوجية المحدودة لحماس.
وقد ساعدت هذه التكنولوجيا لسنوات عديدة، في إحباط جميع خروقات الحدود باستثناء عدد قليل منها، وهو ما ولّد إحساسًا زائفًا بالأمان، كما قال مسؤول أمني غربي آخر، مقارنًا إياه بجهاز “آي فون”.
وقال المسؤول: “إنه أمر رائع عندما ينجح الأمر، ولكن إذا لم ينجح، فلن تتمكن فجأة من فعل أي شيء”.
كما توقفت وحدة استخبارات الإشارات العسكرية الإسرائيلية 8200 مؤخرًا عن التنصت على أجهزة الراديو المحمولة التي يستخدمها مسلحو “حماس” بعد أن اعتبروا ذلك مضيعة للجهد، وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وقال ميلشتاين: “لقد أصبحنا مدمنين على التكنولوجيا والإنترنت والبيانات الضخمة وبقية ذلك”.
وأضاف: “لكن المعلومات الاستخبارية الأرخص والأبسط، مثل المصادر المفتوحة، وتتبع اتصالات حماس اللاسلكية، وحتى الاستماع إلى جنديات المراقبة لدينا على الحدود، لم تكن موضع تقدير كامل”.
والمشكلة الأخرى هي أنه في حين أن أساليب المراقبة الإسرائيلية عالية التقنية يمكن أن تنتج كميات كبيرة من المعلومات الاستخبارية التكتيكية عالية الجودة، مثل تحديد الموقع الدقيق لمنصة إطلاق الصواريخ، إلا أنها أقل جودة في الكشف عن الإستراتيجية أو نوايا القيادة، وهو ما يمثل التركيز الرئيسي للسياسة الإسرائيلية.
وقال يونجر: “إذا كنت تكرر الوضع الراهن، فإن التكنولوجيا جيدة جدًا”.
وأضاف: “الأمر أقل أهمية بكثير عندما يتعلق الأمر بالقيام بقفزة استراتيجية أو الكشف عن النوايا”.
أما السبب الثالث وراء فشل إسرائيل في توقع هجوم “حماس”، وفق الصحيفة، هو أن الاضطرابات السياسية الناجمة عن السياسات الداخلية المثيرة للجدل التي ينتهجها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كانت سبباً في إضعاف الأمن القومي وتشتيت انتباه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وقال ديفيد بتريوس، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية والجنرال الأمريكي الذي قاد القوات المتحالفة في العراق والقوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان: “كان من المفهوم أن يركز الشاباك على زيادة العنف في الضفة الغربية، والذي أصبح يمثل تحديًا متزايدًا”.
وقد استغلت “حماس”، التي تحكم غزة منذ عام 2007، هذه الانحرافات.
كما يتماشى ذلك مع سياسة نتنياهو التي سعت إلى تعزيز حكم حماس في غزة كوسيلة لتقليص مكانة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وحتى عندما كانت حماس تستعد للحرب، ظلت على اتصال يومي مع الحكومة الإسرائيلية بشأن القضايا الدنيوية، مثل حصص التصدير وتصاريح العمال.
ويؤكد العديد من المسؤولين الإسرائيليين والدوليين أن هؤلاء العمال ساعدوا في جمع المعلومات الاستخبارية، بما في ذلك الخرائط الدقيقة للكيبوتسات التي هاجمتها “حماس” لاحقًا.
بالإضافة إلى ذلك، قامت حماس بتصفية المعلومات المضللة من خلال القنوات التي كانت تعرف أن المخابرات الإسرائيلية تراقبها، في حين تم وضع الخطط الفعلية للهجوم من قبل مجموعة صغيرة من قادة التنظيم.
وتعلق الصحيفة على ذلك بالقول إن “الدروس التي استخلصها المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون من فشلهم في توقع الهجوم لها آثار مميتة”.
وتتابع: “النتيجة التي توصلوا إليها هي أن إسرائيل لم يعد بوسعها الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية لتوفير إنذار مبكر بشأن الهجمات القادمة من غزة، أو على القوة العسكرية للبلاد لردعها”.
وبدلا من ذلك، يجب عليها استباق التهديدات المحتملة من خلال القضاء عليها بشكل مباشر.
وتختتم الصحيفة بنقل ما قاله مسؤول إسرائيلي كبير: “الحل الوحيد هو: عدم الاعتماد بعد الآن على الاستخبارات.. والعمل على نموذج جديد”.