مثّل صعود الصين السريع على الساحة الدولية، خصوصًا في العقد الأخير، خبرًا سارًا لنظم حكم أوتوقراطية عديدة في منطقتنا، وفي مناطق أخرى بالطبع، وتتساوى في ذلك إيران والدول العربية. بالنسبة إلى الأولى، يمثّل صعود الصين (هكذا التصوّر) انحسار الهيمنة الأحادية الأميركية المستمرّة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، وهي الهيمنة التي دفعت إيران ثمنها غاليًا على شكل حصار وعقوبات وعزلة عن النظام المالي العالمي وتطويق لنفوذها السياسي والدبلوماسي والأمني. ترى إيران (أو تيارٌ وازنٌ فيها) أن الصين يمكن أن تمثل بديلاً محتملاً يساعد في تطوير بنيتها التحتية المتهالكة وإحياء اقتصادها المتداعي، ومساعدة النظام، بالتالي، على مواجهة الضغوط الخارجية والاحتجاجات الداخلية التي ما فتئت تأكل من شرعيته، وأنه، بهذا المعنى، يمكن إدارة الظهر للغرب “الآفل” والانطواء تحت جناح الحليف الصيني “الصاعد”. بالنسبة إلى أكثرية الدول العربية، يمثل صعود الصين تعزيزًا لمكانة النظم الأوتوقراطية في العالم، و”برهانًا” قاطعًا على أنّ الشفافية والمشاركة السياسية واحترام حقوق الإنسان ليست الطريق الحتمي للتنمية والرخاء والازدهار الاقتصادي، وأنّ الديمقراطية ليست النظام السياسي الوحيد القادر على النجاح والتفوّق (كما لو أن النظم العربية حققت شيئًا من هذا!). بالنسبة إلى دول عربية أخرى، يمثل صعود الصين، فضلاً عمّا سبق، فرصة لاستغلال التناقضات الأميركية – الصينية للحصول على أفضل الشروط الممكنة من العلاقة مع الطرفين، لا بل وحتى فرض شروطها على الولايات المتحدة التي انتابها الذعر من مستوى اختراق الصين المنطقة العربية (في دول الخليج العربية تحديداً) التي بات ينظر إليها، على نطاق واسع، بثقلها المالي والاقتصادي، باعتبارها قوة مرجّحة في النظام الدولي. والواقع أن دول الخليج العربية نجحت في استعادة الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وفي دفع واشنطن “البراغماتية” إلى إسقاط شروطها المتعلقة باحترام حقوق الإنسان من أبجديات التعامل مع دول المنطقة، سواء في مجال مشتريات السلاح أو العلاقات السياسية والدبلوماسية، بفعل “تخويفها” بالعلاقة مع الصين.
يحيلنا هذا الوضع على فترة الحرب الباردة (1946 – 1991)، حيث استفادت دول صغيرة عديدة من أجواء التنافس بين القوتين العظميين، للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب من خلال التهديد بتغيير تحالفاتها. ورغم أن هذه اللعبة قابلة للتكرار، طبعاً، في أجواء تنافسٍ متصاعدٍ بين الصين والولايات المتحدة، الا أن هناك محدودية لما يمكن أن تأتي به من مكاسب، على الأقل في المرحلة الراهنة. فالصين تبدو أكثر حذراً وأقلّ استعداداً من الاتحاد السوفييتي السابق في تحدّي الهيمنة الأميركية في العالم، كذلك فإن الفجوة التكنولوجية والعسكرية بينها وبين الولايات المتحدة أكبر من التي كانت قائمة بين واشنطن وموسكو في بداية الحرب الباردة. وتبدو الصين، فوق ذلك، أكثر عرضةً، بسبب اقتصادها المنفتح وتبادلاتها التجارية الكبيرة مع الغرب، للتأثر بالعقوبات الأميركية مما كان عليه الاتحاد السوفييتي. لذلك، تجدها أكثر حذراً في خرق العقوبات على إيران مثلاً، وأكثر تردّدًا في أداء أدوار أمنية وعسكرية في منطقة الخليج، حيث فارق القوة بينها وبين واشنطن كبير، وقدرتها على نشر قوات عسكرية خارج إقليمها تكاد تكون غير موجودة، في مقابل سيطرة أميركية مطلقة على البحار والمحيطات. إضافة إلى ما سبق، بدأت تظهر على الصين ملامح التعب، وهي لمّا تبدأ بعد جولات المنافسة الفعلية مع الولايات المتحدة، اذ بات مستوى الديون المرتفع يهدّد اقتصادها، فيما تصل نسبة البطالة بين الشباب (18 – 24 عاماً) إلى 25%، وتعدّ بمثابة قنبلة موقوتة في قلب النظام. ويبدو أن عصر المعجزة التنموية الصينية قد بلغ هو الآخر نهايته، فصارت نسب التنمية المؤلفة من رقمين جزءاً من الماضي (أقصى طموحات الصين هذا العام أن تصل معدلات التنمية إلى 5%). تضاف إلى ذلك كله شيخوخة المجتمع الصيني، وبدء متوالية تناقص السكان الذين بات يشكل من تبلغ أعمارهم فوق 65 سنة حوالى الربع بينهم، ويزيدون بمعدل 2% سنوياً. لكل هذه الأسباب، تجب عدم المبالغة في محاولة استغلال التنافس الصيني – الأميركي، أو الإشادة “بالنموذج الصيني”، الذي بلغ على ما يبدو حدوده القصوى، وفي طريقه إلى الانكفاء، أو ربما الانفجار.