سيناريوات ماضية تنبّأت براهن إسرائيل
وقائع من الماضي تسلّط الضوء كالنبوءة على واقع إسرائيل القائم، سواء ما تسبّب بالأزمة الراهنة، أو الذي فيه ما يفسّر اصطفاف المعسكرات المتخاصمة.
تغيّرت تركيبة يهود إسرائيل وفق مستوى التديّن، نحو تزايد اليهود المتدينين والحريديم المتشددين، مقابل ضعف القطاع المحافظ، وتضاؤل أعداد العلمانيين.
كيف ستُدار دولة يهودية سيحكمها حاخامات يوقفون أيام السبت والأعياد اليهودية حركة القطارات ووسائل الاتصال؟ هل يمكن إقامة مملكة كهذه؟ وهل سيكتب لها البقاء؟
توقع غوردون في ضوء مغادرة اليهود بلدانهم الأصلية بمبرّرات دينية أن تفرض التيارات اليهودية الأصولية أجندتها على المهاجرين، وتنشأ حالة استلاب كامل للحاخامين وأحكام الشريعة اليهودية.
* * *
في سياق تحليل الأزمة التي تعصف بإسرائيل منذ بداية العام الحالي، على خلفية الخطّة التي تحاول حكومة نتنياهو السادسة الدفع قدمًا بها، والرامية إلى إضعاف الجهاز القضائي وإخضاعه إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية،
يستعيد كُتّاب ومحللون كثيرون وقائع من الماضي سلّطت الضوء فيما يشبه النبوءة على الواقع القائم في الوقت الحالي، سواء الذي تسبّب بالأزمة الراهنة، أو الذي فيه ما يفسّر اصطفاف المعسكرات المتخاصمة، سيما في ما يتعلق بالمشهد الحزبيّ العام والصراع الطائفيّ.
وهو مشهد ترتّب، ربّما أكثر من أي شيء آخر، على تغيّر تركيبة السكّان اليهود في إسرائيل بموجب مستوى التديّن، إلى ناحية تزايد عدد اليهود المتدينين، والحريديم المتشددين، في مقابل ضعف القطاع المحافظ، وتضاؤل أعداد العلمانيين.
وللتمثيل على ما نقصد، نورد نموذجين من هذا الاستحضار، يستأنسان بالفترة التي سبقت ظهور الصهيونية كحركة كولونيالية تدعو إلى استعمار فلسطين لإقامة دولة يهودية فيها:
الأول، نموذج الشاعر يهودا ليف غوردون (1830-1892) الذي يعتبر أحد رواد ما يعرف بـ”فترة الهسكالا” (التنوير) اليهودية، وتطرّق إلى احتمال أن يجابه اليهود تصاعد مظاهر معاداة السامية خصوصًا في روسيا وأوروبا من خلال مغادرة بلدانهم الأصلية والتوجّه إلى فلسطين.
ومما توقعه أن تكون مسألة انعدام لغة مشتركة عائقًا كبيرًا أمام ما وصفه بصهر الجاليات اليهودية. وتساءل في أحد مقالاته: بأي لغة سيتواصل المهاجرون الذين سيأتون من جميع أرجاء المعمورة؟ ومن سيخترع لهم لغة واحدة تكون لها السيادة؟
الأهم من ذلك أن غوردون توقّع أنه في ضوء تسويغ مغادرة اليهود بلدانهم الأصلية بمبرّرات دينية محض، فإن التيارات اليهودية الأصولية ستفرض أجندتها على مجتمع المهاجرين، وستنشأ حالة يكون فيها استلاب كامل للحاخامين وفتاويهم في ما يتعلّق بأحكام الشريعة اليهودية، حتى لو كانت تتعارض مع العقل أو المنطق.
وبهذا الشأن طرح عدة أسئلة منها: كيف ستُدار الدولة اليهودية إذا كانت سياستها ستُحدّد من طرف الحاخامين الذين سيقررون في أيام السبت والأعياد اليهودية أن تتوقف حركة القطارات وأن تُشلّ خطوط التلغراف (وسائل الاتصال)؟
هل يمكن إقامة مملكة كهذه في أيامنا؟ وهل سيكتب لها البقاء طويلًا؟ وتوقع غوردون أن تكون النهاية مع مجيء النبي إلياهو الذي سيهيئ اليهود للخلاص ويصلح قلوبهم.
النموذج الثاني الكاتب شالوم بن مناحيم ناحوم رابينوفيتش، المعروف باسم شالوم عليخم (1859-1916)، وهو قاص وكاتب مسرحي ييديشي عاش حياته في روسيا. وبعد وفاته نشر صهره كتابًا قصصيًا له بعنوان “لماذا يحتاج اليهود إلى دولة خاصة بهم” على اسم إحدى القصص التي يصف فيها الكاتب أن كل يهودييْن اثنيْن يحملان ثلاثة آراء، وليس في وسعهما الوصول إلى إجماع على الإطلاق.
وفضلًا عن هذه القصة، التي رأى أحد المحلّلين أنّ ما خلصت إليه ما زال مستمرًا حتى في ظل واقع قيام دولة خاصة لليهود، نشر شالوم عليخم في عام 1902 قصة بعنوان “مجانين” كتبها بعد أن شارك في رحلة نظمتها الحركة الصهيونية من أجل الترويج لأفكارها.
وبعد “خطة أوغندا” (وهي خطة طرحت في أوائل القرن العشرين ودعت إلى منح جزء من شرق أفريقيا البريطانية إلى اليهود كوطن ولقيت دعمًا من مؤسس الصهيونية ثيودور هرتسل كملاذ مؤقت لليهود الأوروبيين الذين يواجهون مظاهر معاداة السامية) كتب عليخم قصة بعنوان “الجمهورية اليهودية الأولى”.
في هذه القصة يحكي شالوم عليخم عن مجموعة مؤلفة من ثلاثة عشر شخصًا يهوديًا يبحرون في سفينة وسط بحر مائج. وتغرق السفينة ولكن ركابها يتمكنون من النجاة والوصول إلى جزيرة معزولة في عرض البحر.
ويقرّرون أن يؤسّسوا في الجزيرة أنماط حياة على غرار دولة مستقلة تكون بمثابة أول جمهورية يهودية، فأقام كل منهم حزبًا، وأسسوا برلمانًا يهوديًا فيه 13 عضوًا، غير أنهم لم ينجحوا في انتخاب رئيس للجمهورية اليهودية.
*أنطوان شلحت كاتب وباحث في الشأن الإسرائيلي