المهندس سليم البطاينه
أعترف بحيرة سيطرت على مشاعري في اختياري لعنوان هذا المقال وشعرت بالوهن ينتاب علاقتي بالكتابة ، حيث ان قرار الكتابة ماضيٌ في سبيل كشف الغطاء عن حنين الذاكرة والذكريات وعما نخفيه ونتردد في البوح به،،، ولهذا وجدت أن الكتابة عن قضايا أخرى بعيدة عن السياسة تُشكل فرصة لألتقاط الأنفاس ! رغم أن الخبز معجون بالسياسة ، والجوع والفقر والبطالة لها علاقة بالسياسة ، والظُلم تابع للسياسة ، وكل ما نكتبه هو من قهر السياسة ،،،، فوجود السياسة وزيادة جرعتها هما اللذان يضمنان التنفيس وإخراج البخار المكتوم وإلا فالنتيجة هي الانفجار.
الأغراء واضح والمحفزات لا حصر لها للأنشغال بالشأن السياسي لكن ما نحتاجه هذه الايام هو رفع شعار قليل من السياسة وكثير من النوستالجيا التي تبدو نعياً لزمن قديم أحببناه وعشقناه وكان بنظرنا زمن المعجزات ،،، فحين تنفجر النوستالجيا حنيناً إلى الماضي يبدو الواقع غير ما هو عليه ! والمستقبل أكثر غموضاً ! والواقع أقل رومنسية مما نعتقد ، ومن هنا كان التعلق بداء الحنين لدفاتر الأيام القديمة لمحاولة الهروب من احباطات اللحظة الراهنة.
إن كتاباتنا السياسية أرهقت عقولنا ولم نعد قادرين على استيعاب الذي يجري لأنه أصبح أكبر من تفكيرنا ورؤيتنا.
وما يحصل اليوم ناتج عن جهلنا بما حدث وتسامحنا في الأفراط في تناول المقاسات كيفما أُتفق ،،، وعدم أدراكنا لمخططات نجحت في تدمير أحلامنا ! بل أشغلتنا في أنفسنا ، وآثرنا الأنشغال بصغائر الأمور وكل ما هو محظور !! فخسرنا كل شيء ولم نخض المعركة ! فالمتلقي هنا غير مسموح له بالأعتراض أو مجرد أبداء الرأي وما عليه القول إلا نحن نسمعك ،،، والغصة والألم الذي نعانيه كان بسبب غفلتنا التي غفلنا عنها وما زلنا غافلين !
لماذا يكثر نُواحُنا على الزمن الجميل (زمن العذرية السياسية ) ؟ ودائماً ما يكون التعبير أشارة إلى الماضي البعيد ،،،، ذلك الماضي الذي أضعناه ذات يوم ، يوم كان فيه حلم ومشروع دولة نجتمع عليه.
فمن منا لا يعرف الحنين إلى الماضي ويشعر به ، فالحنين وجع عشوائي لا يستأذن أحد ، وغالبية الاردنيين يعيشون اليوم ألم الأغتراب داخل وطنهم ! وألم الحنين أليه ، ويحاولون أستعادة ذكريات الماضي كلما حانت الفرصة لديهم، فالحنين والنوستالجيا إلى ذلك الزمن القديم يعني أننا فشلنا فشلاً ذريعاً في إقناع الناس بكل ما جرى وما يجري حالياً.
الاردن اليوم أكثر قلقاً، والاردنيون الشرفاء لا يحبون الماضي لجماله فقط بل لأنهم يرون صورتهم فيه ، لأنه من الصعب جداً أن تحتفظ الذاكرة بما لم يمسّ قلوبهم ،،، وما يمسّ القلب غالباً ما يعيش عبر القلب نفسه.
بالتأكيد لا أريد هنا مقارنة وضعنا المُزري الحالي ولا أثارة الحنين إلى ماضٍ انتهى بنوع من النوستالجيا ، فكثيرون في الاردن انقطعوا عن الماضي وتعروا منه ، ونسوه واستبدلوه ببضاعة فاسدة ،،،، فلو جاز لنا أن نفصل بين ذكرياتنا العامة والشخصية لوجدنا أننا نلوذ بالماضي لبؤس حاضرنا وجهل مستقبلنا ! فقد ضاقت صدورنا وفقدنا الحيرة والقدرة على الاندهاش ! فللعقل قدرات محدودة على استيعاب كل ما يحدث وما نشاهده ، وما نسمعه ،،، فللأسف فقد تم وضعنا في مسرحيات وتمثيليات ! بحيث أوصلونا وافهمونا إلى أن الوطن ليس الجغرافيا.
حقيقة إنها بلاغة الصمت وليس اذعان السكوت ، فهنالك من التزم الصمت ولم يجهر بما يجول في خاطره من حقائق خوفاً من العواقب ، فالصمت وسط هذه الفوضى فضيلة ، وضياع الأمل المرتجى سيكون أقرب إلى صيحة في وادٍ ، وشعوري هنا يأتي بأنني أريد أن ألوذ والصمت لعل فيه شفاعة وإيقاعاً خارج سياقات السرب ! واستشهد هنا بما كتب الفيلسوف الألماني Nietzsche إلى أخته Elisabeth ( أصبحت صامتا لأن لا أحد يستطيع فهم حديثي ! ).
إن التفكير في مستقبلنا الغامض قد يكون معيقاً في أسترجاع ما نعتقد أنه لذة ماضية ،،،، فاليوتيوبيا تحمل نظرة متفائلة إلى مستقبل أفضل ،، لكن النوستالجيا قد تجعل من الحاضر ( ديستوبيا ) أي مستقبل أكثر غموضاً ،،، فمن شاهد منكم الفيلم الشهير ( النوستالجيا ) عام ١٩٨٣ للمخرج الروسي Andrew Tarkovsky يشعر بالاشتياق والحنين إلى مكان آخر وزمن آخر.
والسؤال مرة أخرى : لماذا يحتاجنا الحنين لسنوات مضت ؟ ولماذا نعود للخلف لنتذكر أحداث مرت عليها سنوات طويلة ليست قليلة ؟ فنحن لا نتذكر الاشياء كما هي ! بل كما نريدها أن تكون ، والعيش في ماضٍ ألفنا أحداثه وأشخاصه ، وقد يكون ذلك وسيلة للخوف من المستقبل.
الزمن تغير كثيرا واصبح يكتنفه الغموض ، واصبحنا لا نفهمه ، وربما لا يفهمنا بسهولة ،،، والانسان بطبعه كلما تقدم به العمر وتعاقبت على وجوده الأزمنة أصبح صعب الأرضاء لأنه تعلم ما أستطاع وعرف ما قدّر له فصار انتقائياً.
كنا نقول غداً ، وها نحن صرنا بلا غد ، اين كنا واين اصبحنا ؟ أين كنا في الستينات والسبعينات ، واين أصبحنا في هذا الزمن المذموم؟ فقد كانت لنا صولات وجولات ،،، فامتلكنا ناصية العلم ومفاتيح المعرفة ، فالاردن كان يوصف في سبعينات القرن الماضي بأنه أفضل الدول العربية في التعليم والصحة ومنافساً لدول كثيرة في العالم ، وبرزت فيه أسماء لامعة في شتى المجالات ،،، أمسى اليوم في المرتبة الاخيرة في كل شيء ،،، والأكثر رعباً للمثقفين والكفاءات.
للأسف الاردن اليوم بين امس مشرق وحاضر كئيب ،،، وإذا أردنا توصيف المرحلة القادمة بشكل دقيق ، من الممكن القول أننا ذاهبون إلى مرحلة لم يتم تحديد معالمها بعد ،،، فسنوات طويلة ونحن غائبون نتفرج على غيرنا يتألقون.
وما أجمل المقطع الأخير من أغنية ( فات الميعاد ) للراحلة أم كلثوم وهي تُطرب ( وعايزنا نرجع زي زمان ،،، قول للزمان أرجع يا زمان !! ).
المهندس سليم البطاينة نائب اردني سابق