في الحالتين السودانية واليمنيّة، هناك، على أرض الواقع، نتيجة واحدة. تتمثل النتيجة في الوصول إلى دولة فاشلة. يجمع بين اليمن والسودان ووصولهما إلى دولتين فاشلتين تنظيم الإخوان المسلمين. استولى هذا التنظيم على السودان طوال ثلاثة عقود، بين 1989 و2019، في عهد عمر حسن البشير. انقلب الإخوان على علي عبدالله صالح في العام 2011. حاولوا قتله في حزيران – يونيو 2011 في مسجد دار الرئاسة.
ما يعيشه اليمن اليوم نتيجة هذا الانقلاب الذي في أساسه سعي الإخوان المسلمين، عبر شخصيات معيّنة، عسكريّة ومدنيّة إلى الاستيلاء على السلطة. سعت هذه الشخصيات إلى الحلول مكان علي عبدالله صالح. لمّا لم تستطع استغلت “الربيع العربي” بغية الوصول إلى مآربها. كانت إيران، عبر الحوثيين (جماعة أنصارالله) المستفيد الأوّل من كلّ ما فعله الإخوان بجناحيهما العسكري والمدني… وصولا إلى وضع اليد على صنعاء، عبر الحوثيين، في 21 أيلول – سبتمبر من العام 2014.
◙ البشير حاول مواجهة المدّ الشعبي الذي واجه بقاءه في السلطة، لكنّ من حسم الأمر كان كبار الضباط من رفاقه الذين أجبروه على الاستقالة
مع انفجار الوضع السوداني، بات في الإمكان الحديث عن تداخل بين عوامل عدة تجعل من إعادة تركيب البلد أمرا في غاية الصعوبة. من ينتصر على من؟ لم يعد مثل هذا السؤال مهمّا. ماذا إذا انتصر عبدالفتاح البرهان، الذي يقف على رأس الجيش، على محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يمتلك قوة الدعم السريع؟ وماذا إذا انتصر “حميدتي” على البرهان والجيش الذي يعاني من تأثير تيار الإخوان المسلمين عليه؟ لن يحلّ ذلك أي مشكلة بعدما صار السودان دولة فاشلة على غرار ما حصل في اليمن. في اليمن يمكن الذهاب إلى هدنة، لكن لا يمكن الذهاب إلى تسوية سياسية في ظلّ موازين القوى القائمة من جهة ورفض الحوثيين (جماعة أنصار الله) التخلي عن الكيان السياسي الذي أقاموه في شمال اليمن والذي تقع صنعاء في وسطه.
ما لا يمكن تجاهله أنّ الإخواني عمر حسن البشير حكم السودان طوال ثلاثين عاما، بين 1989 و2019. أمضى كل هذه السنوات في إعادة تشكيل الجيش ومؤسسات الدولة وفق أيديولوجيّة تتلاءم وتلك التي ينادي بها الإخوان المسلمون… في سعيه إلى جعل نفسه رئيسا لمدى الحياة. كان مستعدا لكلّ أنواع التنازلات من أجل البقاء في السلطة. وصل به الأمر إلى القبول بتقسيم السودان. في العام 2011، أصبح جنوب السودان دولة مستقلّة. لم يحلّ ذلك أي مشكلة. على العكس من ذلك، صارت دولة جنوب السودان مشكلة في حدّ ذاتها فيما زادت مشاكل السودان المختلفة خطورة في ظلّ العجز عن إقامة نظام يمتلك حدا أدنى من القيم الحضارية، التي تمثلها الدولة المدنيّة، بعيدا عن تلك التي ينادي بها الإخوان ومن لفّ لفّهم.
في اليمن، كان يمكن أن تكون الوحدة بين الشمال والجنوب حلا لمشاكل البلد، لكنّ هذه الوحدة التي تحققت في العام 1990 والتي أخرجت الجنوب من دوامة أزماته المتتالية، منذ استقلاله في العام 1967، ما لبثت أن تحوّلت إلى لعنة في ضوء تصرفات الإخوان المسلمين وجماعات أخرى متطرّفة جعلت الجنوبيين ينفرون من الوحدة. كانت لهذه الوحدة إيجابيات كثيرة من بينها قيام مجلس للنواب منتخب ديمقراطيا، نسبيا طبعا، وتمكن اليمن من رسم حدوده مع سلطنة عُمان ثمّ مع المملكة العربيّة السعودية بعيدا عن مزايدات الشمال على الجنوب والجنوب على الشمال.
◙ مع انفجار الوضع السوداني، بات في الإمكان الحديث عن تداخل بين عوامل عدة تجعل من إعادة تركيب البلد أمرا في غاية الصعوبة. من ينتصر على من؟
حصل الانفجار الكبير في اليمن نتيجة انقلاب نفذه الإخوان على علي عبدالله صالح الذي لم يعرف في العام 2006 أنّه كان عليه الإيفاء بوعد الخروج من السلطة. وعد بالخروج من السلطة وما لبث أن عاد عن وعده. ترشّح مجددا ونجح في وجه منافسه (فيصل بن شملان) الذي دعمه الإخوان. كان الإخوان وواجهتهم المدنيّة (حزب التجمع اليمني للإصلاح) وقسم من ضباط الجيش الذين ينتمون إلى جناح الإسلام السياسي في انتظار علي عبدالله صالح في العام 2011. لم يدرك هؤلاء أنّهم كانوا يمارسون لعبة صبّت في نهاية المطاف في مصلحة الحوثيين.
لا يمكن الاستهانة بما يحدث في السودان الذي تخلّص من عمر حسن البشير لكنّه لم يتخلّص من إرثه الإخواني. يدفع السودان ثمن إرث عمر حسن البشير الذي لم يعرف أين كان عليه أن يتوقف وأين حدود السلطة. حاول البشير مواجهة المدّ الشعبي الذي واجه بقاءه في السلطة، لكنّ من حسم الأمر كان كبار الضباط من رفاقه الذين أجبروه على الاستقالة. هؤلاء، في معظمهم، من مدرسة واحدة هي مدرسة الإخوان المسلمين التي تمتلك شبقا ليس بعده شبق إلى السلطة. هذا شبق بدا واضحا على عبدالفتاح البرهان الذي كان البشير يعتمد عليه، كما بدا واضحا على “حميدتي” الذي يمتلك حسابات خاصة به بعدما جمع ثروة ضخمة وظّفها في خدمة طموحات يبدو أن لا حدود لها…
من يعود إلى الدوامة السودانية، منذ الاستقلال في العام 1956 وتسليم المدنيين السلطة إلى العسكر في العام 1958، يكتشف أن السودان لم يكن يوما سوى دولة فاشلة لم تنجب سوى أحزاب لا همّ لها سوى التناحر في ما بينها… وصولا إلى تسلّم عمر حسن البشير السلطة على صحن من فضّة في العام 1989. غيّر البشير طبيعة السودان وطبيعة المجتمع السوداني. غيّر خريطة السودان عندما وافق على استقلال الجنوب في مقابل البقاء في السلطة. في اليمن قاوم علي عبدالله صالح المدّ الإخواني. لا شكّ أنّه ارتكب أخطاء كثيرة دفع ثمنها غاليا في نهاية العام 2017 عندما قرّر الحوثيون اغتياله في صنعاء. لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف به أن رحيله عن السلطة كان الخطوة الأولى في اتجاه تحوّل اليمن بدوره إلى دولة فاشلة. حدث ذلك في عالم عربي ليس معروفا كم دولة فاشلة ستكون فيه، خصوصا إذا أخذنا في الحسبان ما يجري في تونس وليبيا، وحتّى في الجزائر، وفي سوريا ولبنان والعراق!