عمر كوش
حدث، بسرعةٍ لافتة، ما كان يتخوّف منه غالبية السودانيين، إذ اندلعت الاشتباكات الطاحنة بين الجيش و”قوات الدعم السريع”، وكأن الحرب مخطّط لها مسبقاً، وجرى الإعداد لها منذ بدايات الصراع على السلطة بين قائدي انقلاب العسكر على المدنيين، عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اللذين لم يلتفتا إلى الأصوات الداعية إلى تحكيم صوت العقل، وحلّ الخلافات بينهما بالحوار.
إذاً، دخل السودان في أتون حرب دامية، بعد ارتفاع منسوب التوتّر بين القادة العسكريين، وإطلاقهم تصريحاتٍ عدائية علنية، وتهديداتٍ مبطّنة، واحتدام الخلافات بشأن عملية دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، وهذا مطلب رئيسي في الاتفاق الإطاري، للعودة إلى الحكم المدني، وإنهاء الأزمة السياسية الناجمة عن الانقلاب الذي قاده كلّ من البرهان وحميدتي في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
ومع تزايد الخلافات بينهما، لجأ كل طرفٍ إلى التحشيد العسكري في العاصمة الخرطوم وعدد من المدن السودانية، وراحت القيادة العامة للقوات المسلحة تحذّر من “نشوب صراع مسلح يقضي على الأخضر واليابس”، على خلفية انتشار عسكري لقوات الدعم السريع، حول مرافق حيوية في العاصمة ومدن أخرى، ثم عمدت قوات الجيش إلى الانتشار المكثف، وشدّدت الإجراءات حول المقرّات العسكرية في الخرطوم، وأقامت نقاط تفتيش في نقاط عديدة في العاصمة، لكن الأمور سرعان ما ذهبت في الاتجاه الدامي، ليدخل السودان في منعطفٍ خطير، قد يقود إلى انفلات الأمور، و”انفراط عقد الأمن في البلاد”، ودخولها دوامة حربٍ طاحنةٍ تكلّف السودانيين ثمناً باهظاً.
الخاسر الوحيد في الحرب الدائرة هو الشعب السوداني، لأنها تبدّد الآمال في تخلّي العسكر عن السلطة، وتسليمها للمدنيين
السبب الذي طفا على السطح وأدّى إلى احتدام الخلاف بين قائدي الانقلاب، يتمحور حول دمج قوات الدعم السريع التابعة للأخير في الجيش السوداني، ويطال مدة عملية الدمج، وتركيبة القيادة الموحّدة للجيش بعدها، لكن ذلك لا يُخفي أسباباً أخرى كامنة ودافعة إلى نشوب المعارك، تتصل بعدم قبول قادة الانقلاب مطالب القوى المدنية، المتمثلة في تشكيل جيشٍ سوداني وطني غير مسيّس، ولا يتدخّل في الشؤون المدنية، وأن يقبل بالرقابة الحكومية عليه. والأهم إخضاع احتكارات القادة العسكريين في قطاعات الزراعة والتجارة وقطاعاتٍ أخرى لسلطة الدولة، واستكمال التحقيقات التي انقطعت منذ انقلاب 2021 بشأن العدالة الانتقالية، ومحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين السلميين، فضلاً عن المطالب بإجراء إصلاحاتٍ واسعةٍ في قطاعي الأمن والقضاء.
الخاسر الوحيد في الحرب الدائرة هو الشعب السوداني، لأنها تبدّد الآمال في تخلّي العسكر عن السلطة، وتسليمها للمدنيين، حسب الاتفاق الإطاري الذي وقّعته الأطراف في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وجاءت فيما كان معظم السودانيين ينتظرون التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي لنقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين، والذي كان من المفترض توقيعه في السادس من إبريل/ نيسان الجاري، لكن خلافات بين الجيش وقوات الدعم السريع حول عملية الإصلاح الأمني والعسكري والدمج لتكوين جيشٍ موحّد، حالت دون ذلك، وبالتالي، فشلت الأطراف السودانية مرة أخرى في التوقيع على اتفاقٍ يقود إلى نقل السلطة من قبضة العسكر إلى المدنيين، وإنهاء الانقلاب على المدنيين، وذلك على الرغم من المفاوضات الشاقّة التي جرت بين الطرفين، وأشرفت عليها أطراف دولية وأممية، بغية التوصل إلى الاتفاق المنشود.
يظهر واقع السودان أنه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ساحة تنافس وصراع بين قوى ومحاور إقليمية ودولية
يرى سودانيون كثر أن الغاية من نشوب الحرب على السلطة في السودان هي تدمير العملية السياسية الرامية إلى نقل السلطة للمدنيين، ووضع حدّ نهائي لمعاناة السودانيين المستمرة منذ إطاحة نظام عمر البشير في إبريل/نيسان 2019، والتي فاقمها الانقلاب العسكري الذي قاده البرهان وحميدتي في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وأنهى مجلس السيادة المشترك، وحلّ الحكومة برئاسة عبد الله حمدوك، وعلّق العمل بالوثيقة الدستورية، وفرض حالة الطوارئ في البلاد، وجمّد عمل لجنة إزالة تمكين نظام الإنقاذ، وسوى ذلك.
ويظهر واقع السودان أنه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ساحة تنافس وصراع بين قوى ومحاور إقليمية ودولية، الأمر الذي زاد في تفاقم الخلافات بين الأطراف السودانية، خصوصاً زيادة وتيرة التدخلات الإقليمية والدولية، التي تريد تطويع الأوضاع في السودان، من خلال الوصول إلى تسوياتٍ، تخدم مصالحها وأجنداتها، ولا تكترث بمصالح عامّة السودانيين، حيث أفرزت الأجواء السياسية مبادرات لقوى خارجية، وذلك من باب البحث عن حلّ للانتقال السياسي في السودان، وتجسّدت في كل من الآلية الثلاثية، التي جمعت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة إيغاد، والآلية الرباعية، التي جمعت كلا من السعودية والإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة، فضلاً عن المبادرة المصرية، التي حاول النظام المصري الزعم بأنها لا تخرج عن سياق استكمال جهود الآليتين السابقتين، ولا يغيب عن المشهد السوداني ذلك التنافس المحتدم بين روسيا والولايات المتحدة عليه. وبالتالي، يشكّل نشوب الحرب ضربةً لكل الجهود التي كانت تحاول منع حدوث مواجهة دامية بين العسكر، والتوقيع على اتفاقٍ يُحقق مطالب السودانيين بالعودة إلى حكم مدني، ويُرجع العسكر إلى ثكناتهم، ويُنهي تمتّعهم بامتيازات ومكاسب اقتصادية غير مشروعة على حساب غالبية السودانيين، ويوقف استقواءهم بالقوى الإقليمية والدولية.
بقي المشهد السياسي السوداني يعاني من ضبابيةٍ وانسداد في الآفاق، وباتت حلحلة المشهد مرهونةً بمبادرات قوى الخارج
ومنذ بداية الأزمة، انساقت أطراف سودانية، عسكرية ومدنية، إلى المراهنة على دعم القوى الخارجية بغية تمكينها من التغلّب في الصراع على السلطة من الأطراف الأخرى، فغابت المصلحة الوطنية السودانية. ولذلك بقي المشهد السياسي السوداني يعاني من ضبابيةٍ وانسداد في الآفاق، وباتت حلحلة المشهد مرهونةً بمبادرات قوى الخارج، التي تتقاذفها رياح المفاوضات والتوافقات والأطروحات، وبات كل اتفاقٍ يعقبه انقلاب عليه في مشاهدَ دراماتيكية متقلبة، ولم تسهم أيٌّ من مبادرات قوى الخارج في حلحلة الأوضاع، والوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف.
وخلال السنوات السابقة، تركّزت الخلافات بين قادة الانقلاب العسكري أنفسهم، وذلك بعد أن بلغ الصراع على السلطة بين البرهان وحميدتي درجة قصوى من التوتر، إذ لم يعد بإمكانهما المحافظة على تلك الوضعية التي كانت قائمةً بينهما منذ بداية انقلابهما على السلطة المدنية، وبات كل منهما يتصرّف وكأنه الحاكم الفعلي للسودان، ويتمترس خلف جملةٍ من مقاليد السلطة، تتمثل في اعتمادهما على مصادر للقوة وللثروة وداعمين إقليميين ودوليين مختلفين، حيث يسيطر البرهان على قاعدة ومجمّعات إنتاج عسكرية واسعة، ويحظى بدعم مصري وغربي، فضلاً عن دعم فلول نظام البشير. في حين أن حميدتي، قائد مليشيات الجنجويد، سيئة الصيت، التي تحولت إلى قوات الدعم السريع، يسيطر على مناجم ذهب، ويحظى بدعم قادة الإمارات والسعودية وروسيا. والأخطر من ذلك كله أن كلاً منهما يلجأ إلى التهديد بالمواجهة وسيلة للحصول على تنازلاتٍ من القوى المدنية.
في مطلق الأحوال، يبدو أن نهاية الحرب بين العسكر في السودان ليست وشيكةً، في ظل استقواء كل طرفٍ بما يملكه من قواتٍ ومقاتلين، وبما يحقّقه عسكرياً على الأرض من “انتصارات”، حيث يصرّ حميدتي على أن مقاتليه سيواصلون المعارك، حتى الاستيلاء على كل قواعد الجيش، متهماً قائد الجيش الجنرال البرهان بأنه “مجرم”، وينبغي قتله أو “محاكمته”. فيما أصدرت قيادة الجيش مذكّرة باعتقال حميدتي ووصفته بالمجرم. لذلك، الأرجح أن المعارك ستستمر في ظل تشبّث كل طرف بمواقفه، وشعوره بأنه الأقوى في معادلة الحرب على السلطة في السودان، الأمر الذي يعني استمرار إجهاض عملية الانتقال السياسي، وزيادة معاناة السودانيين.