كتب بروس ستوكس، الباحث في “صندوق مارشال الألماني”، مقالة في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية تناولت واقع الولايات المتحدة الأميركية وتراجع قيادتها العالمية وصورتها الديمقراطية عالمياً.
وقال الكاتب إن القيادة الأميركية العالمية تواجه أزمة، لا تتعلق بالحيوية الاقتصادية أو البراعة الدبلوماسية أو القوة العسكرية ولكن بالشرعية. ففي جميع أنحاء العالم، تُظهر استطلاعات الرأي والمقابلات أن الجماهير والنخب في البلدان التي تعتبر نفسها حليفة للولايات المتحدة لديها شكوك حول حالة الديمقراطية الأميركية واتجاهها. فهم لم يعودوا يرون أنها نموذج، وهم قلقون بشأن ما إذا كان النظام السياسي الأميركي لا يزال بإمكانه تحقيق نتائج جديرة بالثقة.
وأضاف الكاتب أن هذه المشاعر تثير اقلق. في الماضي، ارتفعت صورة الولايات المتحدة في الخارج وانخفضت اعتماداً على الرئيس الذي يشغل البيت الأبيض أو الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة في الخارج، لكن الآراء حول الديمقراطية الأميركية ظلت ثابتة، وإن كانت أقل إيجابية مما كان يفترضه العديد من الأميركيين. اليوم، بدأ هذا يتغير. فوراء الشعبية المتقلبة باستمرار لرؤساء الولايات المتحدة، هناك انخفاض مطرد في التقييم الدولي لقوة النظام السياسي الأميركي. تحتل الولايات المتحدة المرتبة 26، بين تشيلي وإستونيا، في أحدث مؤشر للديمقراطية في تقييم “ذي إيكونوميست إنتليجنس يونيت”، والذي وصف الولايات المتحدة لأول مرة بأنها “ديمقراطية معيبة” في عام 2016. وتُصنّف مؤسسة “فريدوم هاوس” الولايات المتحدة بدرجة أقل من الأرجنتين ومنغوليا في الوصول إلى الحقوق السياسية والحريات المدنية.
تراجع صورة أميركا
وقال الكاتب إنه إذا لم يعد بإمكان الناس في جميع أنحاء العالم الاعتماد على الديمقراطية الأميركية لتكون مثالاً يحتذى به وللقيام بعمل أميركي حاسم بشأن التحديات المشتركة، فستفقد واشنطن سلطتها الأخلاقية على القيادة العالمية.
وأضاف: يشعر الأميركيون بفقدانهم لمكانتهم: على مدى العقدين الماضيين، اعتقد نحو ثلثي الأميركيين أن الولايات المتحدة أقل احتراماً على المستوى الدولي مما كانت عليه في الماضي، وفقاً لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث. ومن المرجح أن يتدهور هذا الاحترام أكثر. وفي حين أن متوسط 61 في المائة من الجمهور في 13 دولة عبر الأطلسي تم استطلاعه في عام 2022 من قبل صندوق مارشال الألماني يعتقد أن الولايات المتحدة هي اللاعب الأكثر نفوذاً في الشؤون العالمية اليوم، إلا أن 35 في المائة فقط يتوقعون أن تكون الأكثر نفوذاً في خمس سنوات.
ورأى الكاتب أنه لاستعادة هذه المكانة المفقودة، يجب على الديمقراطية الأميركية التغلب على تحديات السياسة الحزبية، والجمود المؤسسي، وعدم الاستقرار. ستحتاج حكومة الولايات المتحدة إلى إثبات قدرتها على إنتاج سياسات دولية مستدامة يمكن لأصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها على حد سواء الاعتماد عليها. هذه الوظيفة مهمة للغاية بحيث لا يمكن تركها فقط لمن ينشغلون بالقضايا المحلية. تحتاج مؤسسة السياسة الخارجية إلى رؤية إحياء الديمقراطية الأميركية كأساس للقيادة العالمية للولايات المتحدة في المستقبل. وسيتطلب ذلك مشاركة مباشرة مع الجمهور الأميركي، على غرار الجهود المتضافرة للترويج لخطة مارشال للأميركيين المترددين في عامي 1947 و1948. ويجب على صانعي السياسة أولاً الاستماع إلى الأميركيين لمحاولة فهم وتخفيف إحباطهم من ديمقراطيتهم من أجل الحفاظ على نفوذ الولايات المتحدة في العالم وتعزيزه.
تقييمات الأجانب للولايات المتحدة
وأشار الباحث إلى أن تقييمات الأجانب للولايات المتحدة مدفوعة إلى حد كبير بتصوراتهم عن رئيس الولايات المتحدة. وقد بدأت أكثر بيانات الرأي العام شمولاً حول وجهات النظر الأجنبية تجاه الولايات المتحدة في عام 2002 بمشروع المواقف العالمية التابع لمركز بيو للأبحاث.
في عام 2000، كان 83 في المائة من الناس في المملكة المتحدة، و 78 في المائة في ألمانيا، و77 في المائة في اليابان، و76 في المائة في إيطاليا، و62 في المائة في فرنسا، و50 في المائة في إسبانيا لديهم نظرة إيجابية تجاه الولايات المتحدة، وفقاً لما ذكره مسح لوزارة الخارجية الأميركية. تراجع هذا التقييم بشكل كبير خلال إدارة الرئيس جورج دبليو بوش إلى أدنى مستوى له في عام 2008، إذ انخفضت صورة الولايات المتحدة العالمية بمقدار 47 نقطة مئوية في ألمانيا، و30 نقطة في المملكة المتحدة، و27 نقطة في اليابان. ثم انتعشت المشاعر العامة بشكل ملحوظ عندما تولى الرئيس باراك أوباما منصبه في عام 2009، بزيادة 33 نقطة مئوية في فرنسا وألمانيا، و25 نقطة في إسبانيا. لكن وجهات النظر الإيجابية عن الولايات المتحدة تراجعت مجدداً خلال رئاسة دونالد ترامب، ووصلت إلى أدنى مستوياتها، وهبطت 32 نقطة في فرنسا، و31 نقطة في ألمانيا واليابان، و30 نقطة في كندا.
أما في السنوات الأولى لإدارة الرئيس جو بايدن، فقد انتعشت الأفضلية الأميركية إلى مستويات مماثلة لتلك التي كانت في سنوات أوباما في معظم البلدان، حيث ارتفعت 34 نقطة في فرنسا (إلى 65 في المائة)، و33 نقطة في ألمانيا (إلى 59 في المائة)، و30 نقطة في اليابان (71 بالمائة).
وقال الكاتب إنه بالنسبة للجزء الأكبر، فإن الجماهير الأجنبية، وخاصة تلك الموجودة في أوروبا، حيث البيانات أكثر شمولاً، أحبت بيل كلينتون، وكرهت جورج دبليو بوش، وأحبت أوباما، وكرهت ترامب. واللافت للنظر هو التقلب المتزايد في مثل هذه المشاعر، مما يعني أن المؤشر يتأرجح أكثر بكثير وبسرعة أكبر من رئاسة إلى رئاسة. على سبيل المثال، بين عام 2008، قبل الانتخابات الأميركية، وعام 2009، بعد الانتخابات، ارتفعت الثقة في الرئيس الأميركي في فرنسا من 13 في المائة إلى 91 في المائة، وفي ألمانيا من 14 في المائة إلى 93 في المائة، وفي اليابان من 25 في المائة إلى 85 في المائة . وحدث العكس بين عام 2016، قبل الانتخابات، وعام 2017، بعد الانتخابات: حيث انخفضت الثقة في فرنسا من 84 في المائة إلى 14 في المائة، وفي ألمانيا من 86 في المائة إلى 11 في المائة، وفي اليابان من 78 في المائة إلى 24 في المائة. وعلق مسؤول ألماني في أوائل عام 2017 أمام الكاتب قائلاً: “أليس هذا مثيراً للاهتمام؟ لقد استغرق بوش ثماني سنوات للوصول إلى هذا المستوى المتدني. لقد استغرق ترامب ثلاثة أشهر!”.
واعتبر الكاتب أن من يكون جالساً في المكتب البيضاوي، هو الذي يطبع وجهات النظر الدولية للديمقراطية الأميركية. فقد وجد استطلاع أجرته مؤسسة Eurasia Group Foundation لعام 2020 أن 26 في المائة من المستجيبين الألمان يعتقدون أن الديمقراطية على النمط الأميركي ستكون أكثر جاذبية إذا كان شخص مختلف هو رئيس الولايات المتحدة. لكن التحدي الدولي الذي يواجه مكانة الولايات المتحدة في العالم يتجاوز الشخصيات. فلدى الأجانب مخاوف متزايدة بشأن صحة واتجاه الديمقراطية الأميركية بسبب الحزبية العميقة واختلال وظيفتها، وهي مخاوف سبقت رئاسة ترامب. لقد أربكت مثل هذه المخاوف إدارة بوش، وظلت قائمة في خلفية إدارة أوباما، وتثير الآن الشكوك حول إدارة بايدن.
مشكلة أكثر جوهرية
في عام 2012، وجدت مؤسسة بيو للأبحاث Pew Research أن 45 في المائة ممن شملهم الاستطلاع في 20 دولة حول العالم قالوا إنهم يحبون الأفكار الأميركية حول الديمقراطية، بمن في ذلك 64 في المائة من اليابانيين، و60 في المائة من التونسيين، و58 في المائة من الإيطاليين، و52 في المائة من الصينيين. وكان هذا النداء موجوداً في كل دولة تم مسحها في عام 2002.
أما اليوم، فإن قلة من الناس حول العالم يبدون الكثير من الإيمان بالديمقراطية الأميركية. فوفقاً لمسح أجراه مركز بيو على 16 دولة في عام 2021، قال 11 في المائة فقط من المشاركين في أستراليا، و14 في المائة من المشاركين في ألمانيا واليابان، و20 في المائة من المشاركين في المملكة المتحدة، إن الديمقراطية في الولايات المتحدة هي نموذج جيد. وقال 57 في المائة في المتوسط إن الديمقراطية الأميركية كانت مثالاً جيداً لكنها لم تكن كذلك في السنوات الأخيرة. كما قال أحد أعضاء البوندستاغ (البرلمان) الألماني من حزب الخضر في مقابلة مع الكاتب عام 2021، “أنا أثق بأميركا. لكنني لا أثق في نظامها السياسي”.
وبالمثل، قامت مؤسسة مجموعة أوراسيا بتحليل التصورات الأجنبية عن الديمقراطية الأميركية. وفي دراسة استقصائية أجريت عام 2022 على تسعة بلدان، كان لدى 55 في المائة من المشاركين وجهة نظر إيجابية عن الديمقراطية الأميركية، لم تتغير إلى حد كبير منذ عام 2019. ولكن كما هو موضح في استطلاعات مركز بيو، يشعر الجمهور في البلدان الأكثر تحالفاً مع الولايات المتحدة بأنه أقل تفاؤلاً بشأن ديمقراطية أميركا. فقط 20 في المائة من اليابانيين و29 في المائة من الألمان لديهم نظرة إيجابية عن الديمقراطية الأميركية في استطلاع مؤسسة مجموعة أوراسيا. وبالمقارنة، فإن 84 في المائة من النيجيريين و81 في المائة من الهنود معجبون بالأفكار الأميركية حول الديمقراطية. بدورهم، لا يريد الجمهوران الياباني والألماني أن يصبح نظاما حكومتيهما أشبه بنظام الولايات المتحدة، بينما يريد النيجيريون والهنود ذلك.
وخلص الكاتب إلى القول إن من المسلم به أن عدد البلدان التي شملها الاستطلاع من قبل كل من مؤسسة بيو ومؤسسة مجموعة أوراسيا، قليل. لكن كلا الاستطلاعين متنوع جغرافياً ويتضمن اقتصادات رئيسية وحلفاء للولايات المتحدة.
وأوضح أن الأجانب لديهم مخاوف متزايدة بشأن صحة الديمقراطية الأميركية ومستقبلها