د. شهاب المكاحله
قال لي سياسي أوروبي متذمرا من غلاء الأسعار ومعدل التضخم وضعف القدرة الشرائية لدى الشعوب الأوروبية إن الحرب في أوكرانيا كالثقب الأسود لا نهاية لها بل إن بدياتها معروفة حين ابتدأت بتجاهل الأمن القومي الروسي وحتى الأوروبي لمصالح بعض رجال الأعمال ممن يمتلكون مصانع السلاح.
فالتهديد الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام السلاح الاستراتيجي كان وقائياً رادعا. لكن تطورات الأحداث مع اقتراب فصل الشتاء الذي تمتاز فيه القوات الروسية عن غيرها من جيوش العالم بعشقها للبرد والثلوج في الحروب ستكون بداية تحول العالم من عالم يعتمد الدولار كعملة رئيسة للتعاملات المالية وتسعير السلع الاستراتيجية ومنها النفط والغاز والذهب والمحاصيل الزراعية مثل القمح والذرة إلى نظام آخر مواز تماما تتخلى فيه الكثير من الدول عن ربط عملتها بالدولار بل ستربط عملاتها المحلية بعدة عملات ومعادن ثمينة.
في العام ٢٠١٦، استهتر الغرب بمصالح روسيا وسعى إلى تعزيز أمن حلف الناتو على حساب روسيا وغيرها من الدول المجاورة للحلف. وبعد سنوات من ضبط النفس ومحاولة احتواء التمدد الغربي شرقا وشمالا وجنوبا، نرى اليوم ما آلت اليه الأمور في شرق أوروبا. إنها المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس روسي التعبئة العامة الجزئية منذ الحرب العالمية الثانية. ففي السبعينيات من القرن الماضي لم يعلن الاتحاد السوفيتي التعبئة العامة الجزئية في أفغانستان. لماذا الآن؟
الحرب الروسية الأوكرانية جاءت لتغيير العالم من التبعية للغرب وإعادة التموضع. وما يحدث في أوروبا من ارتباك طاقي يمكن الاستدلال عليه بما قالته مستشارة الأمن القومي الأميركي ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس حين قالت في مقابلة تلفزيونية إن على أوروبا أن تبدأ بالتفكير جديا بإيجاد بديل للغاز والنفط الروسيين. كانت تلك الرسالة قبل أكثر من ٨ أعوام.
ففي العام ٢٠١٤، قالت رايس – التي شغلت منصب وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش- في مقابلة مع قناة N24: “الاقتصاد الروسي ضعيف، 80% من الصادرات الروسية هي النفط والغاز والمعادن، سيقول الناس حسنا أوروبا ستنفذ فيها الطاقة، نعم ولكن الروس ستنفذ لديهم السيولة قبل أن تنفذ الطاقة من أوروبا.”
وأردفت رايس قائلة: “أنا أفهم أنه من غير المريح أن يكون لديك تأثير على روابط الأعمال بهذه الطريقة، ولكن هذه إحدى الأدوات القليلة المتوفرة لدينا، على المدى البعيد، أنت ببساطة تريد تغيير هيكل الاعتماد على الطاقة وتريد الاعتماد أكبر على منصات الطاقة الأميركية الشمالية.”
نرى من تحذير الغرب لمواطنيه القاطنين في روسيا بالعودة الى أوطانهم بأنه إشارة إلى التطورات المستقبلية وما ستؤول إليه الأمور عما قريب. فالغواصات النووية الروسية باتت تحيط بالقارات الخمس بانتظار ساعة الصفر. روسيا ليس لديها الكثير لتخسره بل إن أوروبا وأميركا هي من سيدفع الثمن الباهظ لأن الناتج المحلي الروسي وصل في نهاية العام ٢٠٢٠ إلى ٤ تريليون دولار حسب الإحصاءات الروسية الرسمية بينما وصل الناتج المحلي الأوروبي والأميركي معا إلى ٤٥ تريليون دولار في نهاية ٢٠٢٠ وهذا يعني ٥٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. هل سيحارب الغرب روسيا بالشعب الأوكراني أم أنه سيدخل الحرب فعلا في الأيام القادمة بفتح جبهات؟ سنرى أن الروس يضربون عدة دول في المستقبل القريب ممن أصبحت أراضيهم مقار لتدريب القوات المعادية لروسيا وهنا لا أتحدث عن القوات الأوكرانية بل عن قوات مرتزقة يؤتى بها من كل حدب وصوب لقتال الروس أو لتعريض مصالح بلادهم في كافة الدول للخطر.
رهاب الروس بدأ والرهان الروسي على شتاء قارس تتجمد فيه أوروبا هو الكفيل بإعادة الشعوب الأوروبية الى رشدها ومطالبة سياسييها بالرشد والعقلانية في التعامل مع جار أوروبي.