تمثل القارة الأفريقية قطعة مهمة جداً من “الموزاييك” الدولي، إذ تضم 54 دولة معترف بها دولياً وحوالى 1.4 مليار نسمة.
كتب إيفان لوشكاريوف، الباحث بمعهد الدراسات الدولية، مقالاً في موقع “المجلس الروسي للشؤون الدولية”، يتناول فيه الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الروس والأميركيون إلى أفريقيا ويبحث في نظرة كل من البلدين إلى القارة السمراء والعلاقات معها..
فيما يلي نص المقال كاملاً منقولاً إلى العربية:
بعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، حاولت دبلوماسية الغرب الجماعي “عزل” موسكو و”معاقبتها” على أفعالها لحل النزاع في الدونباس. ولكن لا معنى للحديث عن أي عزل دون الأخذ بعين الاعتبار رأي الدول النامية، حيث إن “المليار الذهبي” ليس سوى جزء من سكان العالم الذي يقترب بسرعة من 8 مليارات نسمة.
من الطبيعي أن تتجه أنظار الاستراتيجيين والدبلوماسيين الغربيين إلى دول ومنظمات إقليمية ليست في عجلة من أمرها للانضمام إلى الخطاب المعادي لروسيا ولا ترى فائدة من فرض قيود اقتصادية وسياسية.
تمثل القارة الأفريقية قطعة مهمة جداً من “موزاييك” العزلة الدولية، إذ تضم 54 دولة معترف بها دولياً وحوالى 1.4 مليار نسمة. أفريقيا اليوم ليست فقط أكثر من ربع أصوات أعضاء الأمم المتحدة. إن دول القارة هي القادرة على مساعدة الغرب باستبدال استيراد موارد الطاقة الروسية والأسمدة والمعادن النادرة، لذلك، فإن الزيارات الأخيرة لمسؤولين رفيعي المستوى من روسيا والولايات المتحدة ليست مفاجئة على الإطلاق.
من المهم لكل جانب أن يفهم في أي اتجاه يمكن أن يتأرجح فيه التعاطف، سواء القارة بأكملها أو كل دولة على حدة. في الفترة من 23 تموز/يوليو إلى 27 منه قام وزير الخارجية سيرغي لافروف بزيارة 4 عواصم أفريقية، وفي الفترة من 7 إلى 11 آب/أغسطس، قام نظيره الأميركي أنتوني بلينكين بزيارة 3 بلدان جنوب الصحراء.
معظم البلدان المتأثرة بالزيارات ليست في عجلة من أمرها لإعادة إنتاج التقييمات الغربية للأحداث في أوكرانيا (باستثناء الكونغو). في هذا السياق، من المهم فهم رؤية المستقبل المشترك للقارة التي تقدمها موسكو وواشنطن.
جولة لافروف الأفريقية: اقتراحات موضعية
في تموز/يوليو، زار لافروف 4 دول في القارة الأفريقية في وقت واحد (مصر ، الكونغو، أوغندا، إثيوبيا). وفي المحادثات التي جرت في كل من هذه الدول، اكتسب الموقف الروسي بعض التفاصيل الجديدة. ربما كان الجديد في الحوار مع البلدان الأفريقية هو مشاركتها في عمل منصات التفاوض العالمية والمؤسسات السياسية غير الغربية. على وجه الخصوص، أيد الجانب الروسي فكرة انضمام مصر إلى منظمة شنغهاي للتعاون كدولة شريكة، وكذلك إطلاق صيغة البريكس “الموسعة”، والتي لا تزال قيد النقاش.
بالنسبة للقاهرة، فإن الوصول إلى منظمة شنغهاي للتعاون هو أكثر من مجرد إطلاق حوار حول ثالوث “الإرهاب – النزعات الانفصالية – التطرف”.
فالوجود في نفس الإطار المتعلق بالقضايا الأمنية مع الصين والهند وروسيا يعزز بشكل كبير موقف البلاد في الموازنة بين مراكز القوة الرئيسية. في عام 1987 حصلت مصر من الولايات المتحدة على وضع “الحليف الرئيسي خارج الناتو” ومساعدات عسكرية سنوية بقيمة 1.5 – 2 مليار دولار.
ومع ذلك، وبسبب حالة عدم الاستقرار السياسي، لم يعد بإمكان القاهرة أن تأمل في توفير الدعم المالي والتكنولوجية المتطورة للجيش المصري. وإذا كان رأس مصر بالنسبة إلى الرئيس دونالد ترامب هو “الديكتاتور المفضل”، فبالنسبة لإدارة جو بايدن، لم تكن هذه الدولة ببساطة موجودة لفترة طويلة. وجرى الإتصال الأول للرئيس الأميركي الحالي مع السيسي بعد عام و 3 أشهر من حفل تنصيبه، أما أول لقاء شخصي – فبعد أكثر من عامين ونصف.
بطبيعة الحال، من غير المرجح أن يثير ذلك “الغيرة” في السياسة الخارجية الأميركية. لكن الانخراط في عمل منظمة شنغهاي للتعاون قد يمنح الدبلوماسية المصرية المزيد من الفرص للمناورة والمساومة مع واشنطن، خاصة على خلفية خطاب حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة.
كما أن تفاصيل المفاوضات في إثيوبيا وأوغندا ليست أقل إثارة للاهتمام. فقد أبدى الجانب الروسي استعداده لبدء جولة أخرى من المفاوضات بشأن تشكيلة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. أثار لافروف موضوع إصلاح المنظمة خلال حديثه مع الرئيس الأوغندي يوفيري موسيفيني، وجرت الإشارة إلى أن مسالة عدم تمثيل القارة بالكامل في مجلس الأمن ملحة وبحاجة إلى حل.
وفي إيجاز قدمه السكرتير الصحفي لوزارة الخارجية في أوغندا، كشف عن أن الجانب الروسي يؤيد فكرة تخصيص مقعد لعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لأفريقيا (في السابق جرى مناقشة خيارات المناصب الدورية وشبه الدائمة للقارة بشكل أساسي، ولكن هذا، على ما يبدو ، ليس كافياً). ومر أكثر من 15 عاماً ومع ذلك لم تتقدم المفاوضات بشأن إصلاح الأمم المتحدة وتوسيع مجلس الأمن، وكان موقف موسكو في السنوات الأخيرة يعني بوضوح دعم مطالب الدول الأفريقية بالتمثيل في مجلس الأمن.
في هذه الحالة، من المهم توقيت هذه الإشارة. ففي الظروف الحالية تتاح فرص التفاوض لتعديل جزئي في تشكيلة ومبادئ التمثيل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. بالطبع، الخيارات الجذرية لتوسيع مجلس الأمن مع إضافة باكستان أو اليابان أو ألمانيا ليس لها حظوظ، لكن مجموعة معينة من المرشحين على الأرجح أن تقوم بتلبية بعض مطالب دول أفريقيا وأميركا اللاتينية.
في الوقت نفسه، فإن تجديد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأطراف محايدة نسبياً سيكون مناسباً بشكل متساوٍ لكل من روسيا والغرب.
وعموماً، تعني المقترحات الروسية لتحويل المؤسسات الدولية ومنصات التفاوض – مشاركة أكثر نشاطاً وإبداعاً من البلدان الأفريقية. ويمنح الإبداع المفتوح وغير التقليدي لتشكيل بنية مؤسسية عالمية جديدة لروسيا والمشاركين المحتملين الآخرين في الجماعات غير الغربية ميزة تنافسية، نظراً لأن المؤسسات السياسية الغربية الرئيسية (G7، الناتو، AUKUS) غير شاملة وتنطوي على الانضباط التكتلي المدعم أيديولوجياً.
المصالح في البحر الأحمر
حدث استثنائي آخر للسياسة الروسية في أفريقيا كان الإعلان عن العقيدة البحرية الجديدة في 31 تموز/يوليو. بالإضافة إلى الأحكام التقليدية من الأجيال السابقة للنصوص المفاهيمية، أعلنت الوثيقة الجديدة لأول مرة منذ عقود عزم موسكو ضمان وجود دائم لها في البحر الأحمر.
فقد أعلنت العقيدة البحرية أن هذا الجزء من العالم منطقة مهمة لضمان المصالح القومية وثبتت الرغبة في إنشاء نقاط دعم لوجستي للوحدات البحرية.
بالطبع، ظهرت رغبة روسيا في الحصول على موطئ قدم بطريقة ما في البحر الأحمر قبل عام 2022 بفترة طويلة. في وقت مبكر من نهاية القرن التاسع عشر. حاول نيكولاي أشينوف، وهو مواطن من فولفوغراد الحالية، إنشاء مستعمرة “موسكو الجديدة” في جيبوتي الحالية. في 1964-1977 بنى الإتحاد السوفياتي من الصفر قاعدة بحرية في ميناء بربرة (الصومال)، وفي 1977-1991، استخدمت نقطة لوجستية في جزيرة نوكرا في أرخبيل دهلك (إريتريا الآن). في 2012-2013 كانت روسيا تتفاوض مع جيبوتي بشأن توفير الأراضي لقاعدة عسكرية، لكن الشروط المالية والموقع المقترح لم يلبيا طلبات موسكو.
في عام 2017، اقترح رئيس السودان إنشاء مركز لوجستي في بلاده. وبينما كانت المفاوضات وعمليات التوافق جارية، وقع انقلابان في السودان (في عامي 2019 و 2021)، ونتيجة لذلك وصلت إلى السلطة قوى أقل استعداداً للتفاهم. وعلى الرغم من توقيع اتفاقية الأساس في 1 كانون الأول/ديسمبر 2020، إلا أن عملية التصديق والدخول النهائي في حيز التنفيذ تأخر بسبب الضغوط الغربية القوية التي مورست على السلطات السودانية.
ومع ذلك، من المحتمل جداً أن تتوسع قائمة الدول المرشحة المحتملة لاستضافة القاعدة العسكرية الروسية. الخيارات الأكثر ترجيحاً في منطقة البحر الأحمر هي جيبوتي وإريتريا، إذ تميل الدول الأخرى إلى اتباع توصيات القادة الغربيين. وفيما يتعلق بإريتريا، هناك احتمال كبير ألا تتمكن روسيا من استخدام جزيرة النقرة مرة أخرى، مما قد يتسبب في إثارة الذكريات السلبية.
ففي وقت من الأوقات، كانت الدوريات من القاعدة السوفياتية تقاتل بالفعل مع الحزب الحاكم الحالي في إريتريا. ومع ذلك، يوجد في جنوب البلاد الكثير من المستوطنات الساحلية الصغيرة التي قد تناسب البحرية الروسية. علاوة على ذلك، فإن ميناء عصب يستخدم بالفعل بشكل غير رسمي من قبل دول الخليج لدعم العمليات ضد أنصار الله في اليمن.
أما بالنسبة لجيبوتي، فلا تزال الخيارات أقل وضوحاً – يمكن أن يكون هناك استئناف للمفاوضات حول نقطة لوجستية متكاملة، وكذلك حول نسخة مصغرة من شبكة أمان في حالة حدوث مشاكل مع السودان.
بطريقة أو بأخرى، سيتطلب إعطاء الأولوية لمنطقة البحر الأحمر من روسيا الدخول في حوار مع جميع الدول الساحلية، بما في ذلك الشركاء الصعبين مثل كينيا والصومال. وتظهر تجربة السودان بوضوح أن الخيارات والفرص الاحتياطية مطلوبة دائماً، لأن التغييرات السياسية المحلية قد تبطئ أو تلغي الاتفاقات الدبلوماسية.
استراتيجية بايدن لأفريقيا جنوب الصحراء
على النقيض من مقترحات موسكو، أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكين، في خطاب ألقاه في 8 آب/أغسطس في بريتوريا، عن صيغة أحادية الطرف للتعاون والتفاعل تحت مسمى: “رؤية لإشراك دولتنا في شؤون المنطقة”. وحددت كلمة الوزير الأميركي “استراتيجية بايدن لأفريقيا جنوب الصحراء” وأولوياتها الأربع الرئيسية، وهي الانفتاح، مما يعني قدرة الدول على تطوير وتلقي المساعدة من الولايات المتحدة (في بناء البنية التحتية، ونقل التكنولوجيا)، وتعزيز الديمقراطية من خلال تبادل الأفكار، ومكافحة التضليل والفساد، وتقوية العلاقات بين الأجهزة الأمنية والسكان المحليين.
الأولوية الثالثة هي التغلب على عواقب جائحة COVID-19 وتهيئة الظروف للنمو الاقتصادي المستدام على المدى الطويل. وبخصوص عبارة تهيئة الظروف، لم يقصد بلينكين الاستثمارات والإعانات من المؤسسات المالية الدولية فقط، بل وتنظيم إنتاج اللقاحات في أفريقيا. أخيراً، تتمثل الأولوية الرابعة في إشراك دول القارة في جدول الأعمال “الأخضر”، بما في ذلك مكافحة تغير المناخ.
يشير تحليل استراتيجية بايدن لأفريقيا جنوب الصحراء إلى وجود تشابه قوي للغاية في المفاهيم مع الوثيقة السابقة – استراتيجية أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لعام 2012. من بين الأولويات الأربع لاستراتيجية 2012، ظل نصفها دون تغييرات تذكر في الصياغة – “تعزيز الديمقراطية” و “ربط التنمية الاقتصادية بالمشاكل البيئية”. في عام 2012، لم تذكر الأولوية الثالثة الوباء، لكنها تضمنت مقترحات مماثلة، كالعمل مع المنظمات الإقليمية، وربط الأعمال التجارية بالتعاون، والإصلاحات من أجل النمو المستدام.
في استراتيجيات 2012 و 2022 لا يوجد سوى نوعان من الاختلافات الأساسية. أولاً، تلتزم استراتيجية بايدن بالصمت بشأن القضايا الأمنية، فضلاً عن دور الولايات المتحدة في حل النزاعات في القارة. من المحتمل أن تنعكس هذه القضايا في وثيقة أخرى، يتم إعدادها من قبل وزارة الدفاع. في هذه الوثيقة، سيتم ربط القضايا الأمنية بالجهود السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وسيتم النظر فيها وفقاً لمثلث (الدبلوماسية، والدفاع، والتنمية).
ثانياً، في استراتيجية عام 2012، كانت علاقات الولايات المتحدة مع الجانب الأفريقي مشروطة بشكل صارم بمراعاة “شرعية العملية الديمقراطية”، وإجراء الانتخابات وفرز الأصوات بشكل مناسب والتداول السلمي للسلطة. وتبتعد “استراتيجية بايدن” عن مثل هذا التدخل في الشؤون الداخلية وتجادل بأن الولايات المتحدة قد لا يكون لديها حل لمشاكل الديمقراطية في أفريقيا.
بدلاً من الخاتمة
حالياً، يستمر العمل على وضع مفهوم جديد لسياسة روسيا الخارجية. في مؤتمر صحفي في أوغندا في ختام زيارته، قال سيرغي لافروف إن دور القارة الأفريقية في الوثيقة المفاهيمية الرئيسية حول قضايا السياسة الخارجية سوف يتنامى. وفي المفهوم الحالي لعام 2016، تحتل القارة المرتبة الأخيرة في الملف الإقليمي (لم يتم ذكر دولة أفريقية واحدة بشكل منفصل)، على عكس شركاء “مهمين” لروسيا مثل كندا ونيوزيلندا.
وتظهر الأحداث الأخيرة أن نظرة جديدة للعلاقات مع القارة تنضج تدريجياً في روسيا. في وقت من الأوقات، تحدثت الدبلوماسية الروسية مراراً وتكراراً عن “الهندسة المرنة” للمؤسسات متعددة الأطراف، مؤكدة على أهمية الوحدة حول الأهداف السياسية بدلاً من التركيز على الوحدة السياسية.
في أفريقيا، تبتعد موسكو عن “الهندسة المرنة” نحو هياكل حوار مرنة وموازية، ما يعني عملاً دقيقاً مع دول القارة. فمن ناحية، يتيح ذلك إمكانية امتلاك خيارات ومجموعات بديلة للتعاون، لتقليل الاعتماد على حالة البلد غير المستقرة. من ناحية أخرى، في العلاقات مع القارة الأفريقية، من المهم عدم الانغماس في “مرونة الهندسة” وضرورة الجمع بين أشكال التعاون المختلفة، وكذلك ربط مشاركة الدول الأفريقية برؤيتهم الخاصة للحاضر والمستقبل.
في عالم متعدد الأقطاب والأطراف، يجب توسيع شروط إنضمام أصدقاء منظمة شنغهاي للتعاون وبريكس، ولكن من المهم فهم المبادئ التي ينبغي أن تسترشد بها روسيا في هذه العملية. هناك آليات مؤسسية أخرى في ترسانة موسكو وحلفائها – كإمكانات حفظ السلام والإمكانات العسكرية والسياسية لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، فضلاً عن فرص الحوار المتاحة لدى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والمنظمات دون الإقليمية في القارة الأفريقية (تمت الإشارة إليها في قرارات القمة الروسية الأفريقية الأولى).
يمكن لمثل هذه “القائمة المؤسسية” أن ترضي “الأذواق المتطلبة” وتبدو أكثر فائدة من “استراتيجية بايدن لأفريقيا جنوب الصحراء”. يبقى فقط ترجمة الشعارات البراقة إلى برنامج عمل ملموس ووضعه موضع التنفيذ.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.