لا يُعد الكتاب المنشور سنة 1919 حول “العواقب الاقتصادية للسلام” نقطة البداية الواضحة لفهم العواقب الاقتصادية للحرب الحالية في أوكرانيا، ولكن الأمر يستحق قضاء بعض الوقت في قراءة الوصف الشهير لجون ماينارد كينز عن الحياة المترفة للطبقة المتوسطة العليا في لندن سنة 1913؛ قبل أن تقوم الحرب العالمية بتغيير كل شيء:
في سنة 1913؛ كان بوسع اللندني أن يطلب عبر الهاتف، محتسيًا شاي الصباح في السرير، شتى المنتجات من جميع الأماكن بالكمية التي يراها مناسبة، وأن يتوقع بشكل معقول أن تصل في الوقت المحدد إلى عتبة بابه؛ وفي نفس اللحظة وبنفس الوسائل يمكنه أن يغامر بثروته في الموارد الطبيعية والمؤسسات الجديدة في أي جزء من العالم، وأن يشارك، دون مجهود أو أدنى عناء، في ثمارها ومزاياها المحتملة.
ويصف كينز قدرة هذا اللندني على التكهن في الأسواق والسفر إلى أي مكان يريده دون جواز سفر أو عناء تغيير العملة (وهو ما يجعل أمواله جيدة في كل مكان)، ومن ثم يعلل الخبير الاقتصادي الشهير هذا الانقلاب على النعمة من خلال النظر في الأفكار داخل رأس صاحب الامتياز اللندني:
لطالما اعتبر اللندني هذا الوضع طبيعيًّا ومؤكَّدًا ودائمًا، إلا في اتجاه مزيد من التحسين الذي يُعتبر أي انحراف عنه شاذ وفضيحة يمكن تجنبها، ولم تكن مشاريع وسياسات النزعة العسكرية والإمبريالية، والمنافسات العرقية والثقافية، والاحتكارات والقيود والإقصاء، التي كان من المفترض أن تلعب دورًا هامًّا في هذه الجنة، أكثر من مجرد تسلية في جريدته اليومية، وبدا أنها لم تمارس أي تأثير على الإطلاق في المسار العادي للحياة الاجتماعية والاقتصادية، والتي كان تدويلها شبه مكتمل من الناحية العملية.
ويُعد البريطاني العالمي كينز، الذي لم يُدرك أن العصر العظيم الأول للعولمة كان على وشك أن يتحول إلى أشلاء في معركة السوم، المكافئ الحضري للأشكال الحضرية في “جوسفورد بارك”، فيلم روبرت ألتمان عن عطلة نهاية الأسبوع في منزل ريفي كبير للتو قبل اندلاع الحرب. ويمتلك أحدنا صورة لأرقى نادٍ لتناول الطعام في أكسفورد، بولينجدون (Bullingdon)، وفي سنة 1913، يحدق حكام العالم المستقبليون بنا بغطرسة متجمدة، والذين سيكون معظمهم في غضون سنة في الخنادق.
ولم يكن الأرستقراطيون الفذّيون الوحيدون الذين شعروا بالرضا عن أنفسهم، وهو ما اتفق عليه المفكرون؛ حيث جادل كتاب نورمان أنجيل الذي نُشر سنة 1909 “الوهم العظيم“، وهو من أكثر الكتب مبيعًا في العصر الإدواردي، بأن الحرب كانت مستحيلة نظرًا لترابط العالم، وهو افتراض عملت عليه الشركات الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة. ولقد ترك العصر العظيم الأول للعولمة – الذي بدأ في ستينيات القرن التاسع عشر ودعمته القوة البريطانية وبتنسيق من قبل فن الحكم البريطاني – الطبقات التجارية حرة لكسب المال، حيث واجه رجال الأعمال بعد ذلك حواجز أقل بكثير من نظرائهم الحديثين عندما يتعلق الأمر بنقل الأموال أو سلع أو أشخاص حول العالم.
ومن السهل الاستهزاء بقصر نظر الطبقة الحاكمة في الغرب في سنة 1913؛ لعدم رؤية كيف يمكن لصعود ألمانيا وشبكة التحالفات المعقدة بين القوى العظمى أن يحول اغتيالًا في سراييفو إلى صراع عالمي. ولطالما كان ملهم التاريخ، كليو، حكيما دائمًا بعدما حدث، لكن الأجيال القادمة يمكن أن تطرح نفس السؤال عنا: كيف لم يُدركوا ذلك؟
على الأقل، كان لـ”كينز” في لندن هذا العذر؛ فقد جاءت نهاية عصره من العولمة دون سابق إنذار. وفي حالتنا؛ تعرضت العولمة لهجوم مستمر طوال عقدين من الزمن، مع وقوع هجمات خطيرة في سنة2001 (عندما اصطدمت طائرتان، كانتا إلى حد الآن رمزان للحداثة، بمركز التجارة العالمي)، وفي سنة 2008 (عندما انهار بنك ليمان براذرز ودخل النظام المالي العالمي في أزمة)، وفي سنة 2016 (عندما صوت البريطانيين لمغادرة أكبر منطقة تجارة حرة في العالم وانتخب الأمريكيون شخصية تلفزيونية شعبوية كرئيس)، ولبعض الوقت، كان “الفصل” في الاقتصاد العالمي إلى أجزاء صينية وأخرى غربية يسير بخطى متسارعة. وكان الفيروس الذي جمد سلاسل التوريد وأجبر العالم على السبات سبب الدراما الكبرى قبل أن تحدث حرب أوكرانيا.
الحل لمشاكل العولمة ليس التخلي عن الليبرالية الاقتصادية، ولكن في إعادة تصميمها.
ومع ذلك، في بداية سنة 2022، شارك الكثير منا افتراضات كينز في لندن؛ لقد قمنا بطلب سلع غريبة متوقعين بأن أمازون ستسلمها إلى أبوابنا في اليوم التالي. وقد قمنا بالاستثمار في أسهم الأسواق الناشئة واشترينا بيتكوين وتحدثنا مع أشخاص على الجانب الآخر من العالم عبر تطبيق زووم. وقد رفض الكثير منا كوفيد 19 باعتباره تعليقًا مؤقتًا لأسلوب حياتنا العالمي. كما بدت “مشاريع وسياسات النزعة العسكرية” لفلاديمير بوتين وكأنها انحرافات في المناطق الأكثر عزلة في منطقة تويتر.
الآن وقد استيقظنا، فإن معظم انتباهنا ينصب على إراقة الدماء في أوكرانيا، وهي محقة في ذلك. ولكن مثلما كانت الحرب العالمية الأولى مهمة لأسباب تتجاوز ذبح الملايين من البشر، من المرجح أن يمثل هذا الصراع تغييرًا دائمًا في الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي، والطريقة التي نعيش بها جميعًا حياتنا، مهما كنا بعيدين عن المذبحة في أوروبا الشرقية.
هذا لا يعني أن العولمة لا تخلو من الشوائب. فبحكم طبيعتها؛ فإن الليبرالية الاقتصادية تضخم الجوانب السلبية للرأسمالية بالإضافة إلى الجوانب الإيجابية؛ حيث تزداد اللامساواة، وتقطع الشركات جذورها المحلية، ويتأخر الخاسرون أكثر، وبدون لوائح عالمية؛ تتضاعف المشاكل البيئية. ومع ذلك، أخرجت الليبرالية أيضًا أكثر من مليار شخص من براثن الفقر في العقود الثلاثة الماضية، وفي كثير من الحالات، عززت الحرية السياسية جنبًا إلى جنب مع الحرية الاقتصادية. البدائل، من الناحية التاريخية، كانت بائسة. في الوقت الحالي، تبدو النتيجة التي كنا نتحرك نحوها نتيجة ينقسم فيها شرق استبدادي تدريجيًّا عن غرب ديمقراطي ولكنه منقسم، ومن المحتمل أن يتسارع ذلك في الماضي.
من هذا المنظور؛ فإن الحل لمشاكل العولمة ليس التخلي عن الليبرالية الاقتصادية، ولكن في إعادة تصميمها. وتقدم الأسابيع المقبلة فرصة ذهبية لإعادة تصميم النظام الاقتصادي العالمي.
بأي مقياس اقتصادي؛ فإن الغرب أقوى بشكل ملحوظ من الشرق، وعند استخدام مصطلحي “الغرب” و”الشرق” فإنه يعني التحالفات السياسية بدلاً من المناطق الجغرافية فقط؛ حيث تمثل الولايات المتحدة وحلفاؤها 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأسعار الصرف الحالية؛ الصين وروسيا والأنظمة الاستبدادية بالكاد تصل إلى ثلث ذلك الرقم. ولأول مرة منذ سنوات، يتحد الغرب بدلًا من الانهيار. هذا الأسبوع، يسافر جو بايدن إلى أوروبا كزعيم للعالم الحر الموحد والمتجدد حديثًا.
عالم حر
حصة الناتج المحلي الإجمالي العالمي حسب الدولة ومستوى الحرية على أساس الحقوق السياسية والحريات المدنية
ملحوظة: أرقام إجمالي الناتج المحلي هي أحدث أرقام متاحة.
حتى الآن، على الرغم من كل حديثه عن توحيد الديمقراطيات؛ لم يفعل بايدن الكثير لتسليط الضوء على البعد الاقتصادي للحرية، ناهيك عن تطويره. السؤال المطروح على بايدن والقادة الأوروبيين الذين سيلتقي بهم هذا الأسبوع بسيط: أي نوع من العالم يريدون بناءه في المستقبل؟ يمكن لأوكرانيا أن تمثل نهاية حلقة واحدة رائعة في تاريخ البشرية. قد يكون هذا هو الوقت الذي يجتمع فيه العالم الحر معًا ويخلق واحدًا آخر أكثر اتحادًا وترابطًا واستدامة من أي وقت مضى. سيتطلب اغتنام هذه الفرصة فهمًا للاقتصاد والتاريخ.
كما كنا في الماضي
كانت نهاية العصر العالمي الأخير وحشية بشكل خاص. حتى بمجرد أن بدأت المذبحة في فلاندرز، قام أصحاب المتاجر البريطانيون، بروح الدعابة، بوضع لافتات مع بدء الحرب كتب عليها “العمل كالمعتاد أثناء التعديلات على خريطة أوروبا”. ولكنه لم يكن ليكون، وسرعان ما أدى الاشتعال إلى توقف التجارة وتدفقات رأس المال والهجرة، وتدخلت الحكومات في الاقتصاد بشكل أعمق من أي وقت مضى. وعندما صمتت المدافع أخيرًا في عام 1918 وفُرض السلام على ألمانيا في فرساي، وفقًا للمصطلحات القرطاجية التي شجبها كينز ببلاغة، حاول آل بايدن وجونسون وماكرون في ذلك الوقت استعادة النظام العالمي القديم للتجارة الحرة والوئام الليبرالي؛ وفشلوا فشلا ذريعا.
رفضت القوة العظمى الجديدة، أمريكا، أن تصبح المدافع عن العقيدة التي كانت بريطانيا العظمى تحميها بهذه المهارة حتى عام 1913. وأدت سياسة التعريفة الجمركية الخاصة بالتسول إلى الجار -إفقار الجار- إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي وأدت في النهاية إلى الكساد العظيم، ومع تقلص التجارة العالمية بأكثر من النصف بين عامي 1928 و1933؛ استمرت الثعابين في الانزلاق: استغل لينين وموسوليني وهتلر الهزيمة والفقر لإنشاء أنظمة عدوانية مناهضة لليبرالية، واستمرت النسخة السوفيتية منها لمدة سبعة عقود. وكان وضع الاقتصاد الليبرالي كئيبًا لدرجة أنه بحلول منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، تخلى كينز نفسه عن ليبرالية السوق الحرة باعتبارها قضية خاسرة وكان يناضل من أجل الاكتفاء الذاتي الوطني.
فقط بعد الحرب العالمية الثانية، استأنف التكامل الاقتصادي تقدمه؛ وبعد ذلك على النصف الغربي من الخريطة فقط. ما يظنه معظمنا اليوم أنه عولمة لم يبدأ إلا في الثمانينيات، مع وصول التاتشرية والريجانية، وسقوط جدار برلين، وإعادة دمج الصين في الاقتصاد العالمي، وإنشاء الوحدة الأوروبية سوقًا في عام 1992.
ومع ذلك؛ بمجرد أن ابتعد السياسيون عن الطريق، تسارعت العولمة مدفوعة بالتكنولوجيا والتجارة؛ حيث انطلقت شركات التكنولوجيا الشابة مثل مايكروسوفت وآبل، بينما حصلت شركات التكنولوجيا القديمة مثل نوكيا، صانع الأحذية المطاطي والإلكترونيات الفنلندي، الذي كان بحلول عام 2010 أكبر مصنع للهواتف المحمولة في العالم، على انطلاقة جديد للحياة. وافتتحت شركة ماكدونالدز مطاعم في ميدان بوشكين بموسكو في يناير 1990 وقبالة ميدان تيانانمين في بكين في أبريل 1992. ومع بزوغ فجر القرن الجديد ووصول بيروقراطي غير معروف، موالٍ للغرب، يُدعى فلاديمير بوتين إلى السلطة في روسيا، بلغ الحجم اليومي لمعاملات الصرف الأجنبي 15 تريليون دولار.
في الآونة الأخيرة، مع تصاعد الهجمات على العولمة، تباطأ التكامل الاقتصادي وانقلب في بعض الحالات.
لكن الغزو الروسي لأوكرانيا يمثل هجومًا أكبر وأكثر تحديدًا من السابق، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن التمزق الفوري وحشي للغاية، فقد تعطل توريد السلع الأساسية، من القمح إلى النيكل ومن التيتانيوم إلى النفط. ويبذل الغرب كل ما في وسعه لإلغاء روسيا من النظام الاقتصادي العالمي؛ أي معاقبة الأوليغارشية، وطرد البنوك الروسية من الشبكة المالية العالمية، ومنع البنك المركزي الروسي من الوصول إلى احتياطياته، وهناك حديث عن طرد روسيا من منظمة التجارة العالمية.
حتى عندما لم يتم إجبارها على فعل ذلك بموجب القانون، فإن الشركات الغربية تقاطع روسيا وتغلق عملياتها الروسية؛ فلم يعد بإمكان المستهلكين الروس استخدام بطاقات ماستر كارد وفيزا وإكسبرس. وتم إغلاق مطاعم ماكدونالدز في ساحة بوشكين؛ إلى جانب 850 فرعًا آخر، وظهرت صور على وسائل التواصل الاجتماعي لروس يقفون في طوابير طويلة من أجل الحصول على السكر والأطعمة الأساسية الأخرى أو يتشاجرون على بقايا الطعام، تمامًا كما فعلوا في أيام الاتحاد السوفييتي. من جانبه؛ رد الكرملين بمنع الوصول إلى فيس بوك والتهديد بسجن أو تغريم أي شخص يشتبه في نشره لأخبار كاذبة، وبالتالي إغلاق المؤسسات الإخبارية الغربية داخل البلاد.
لم نكن نقصد ذلك
سيقول صانعو السياسة الغربيون في اجتماع هذا الأسبوع إنهم لا يعتزمون إغلاق النظام العالمي. كل هذه الوحشية الاقتصادية تهدف إلى معاقبة عدوان بوتين على وجه التحديد من أجل استعادة النظام القائم على القواعد الذي ينوي تدميره، وتدمير التدفق الحر للتجارة والتمويل معه. في عالم مثالي؛ سيتم الإطاحة ببوتين -ضحية أوهامه وجنون العظمة- وسوف يكتسح الشعب الروسي نظام الكليبتوقراطية في الكرملين.
في هذا السيناريو التفاؤلي، فإن إهانة بوتين ستفعل أكثر من إعادة روسيا إلى رشدها، بل ستعيد الغرب كذلك، فستتخلى الولايات المتحدة عن عزلتها الترامبية بينما تبدأ أوروبا بأخذ دفاعها على محمل الجد، وسوف يهدأ المحاربون الثقافيون على جانبي المحيط الأطلسي، ويحتفل المستيقظون وغير المستيقظين على حد سواء بإيمانهم الجماعي بالحرية والديمقراطية. وسيتم فتح مطاعم ماكدونالدز مرة أخرى في ساحة بوشكين؛ و ستزحف ثعابين كينز المختلفة خارج الحديقة.
هناك احتمال لحدوث ذلك؛ فلن يكون بوتين أول قيصر يسقط بسبب سوء تقدير وسوء إدارة الحرب، فيراقب العديد من أقوى الأشخاص في روسيا مصادرة قصورهم ويخوتهم وطائراتهم الخاصة، وكل ذلك بسبب غزو لم يتم التشاور معهم بشأنه. الروس الأصغر سنًا، وخاصة في المدن الكبرى، أكثر ليبرالية من آبائهم، ولا يريد المتسوقون الروس العودة إلى الحقبة السوفييتية.
في غضون ذلك، ففي الغرب؛ فإن أوكرانيا قد حثت بالفعل على إعادة التفكير بشكل كبير، وكما أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز، “نحن في نقطة تحول”، وتحت قيادته؛ اقترحت ألمانيا السلمية ميزانية دفاع أكبر من ميزانية روسيا. وفي نفس الوقت؛ يتم الترحيب بالمهاجرين الأوكرانيين من قبل الدول التي كانت تتجنب الأجانب قبل بضعة أشهر فقط، وبعد عقد من السبات في بروكسل، يتزايد الزخم من أجل الاندماج.
قوة التحالفات
المصدر: (SIPRI)
ملاحظة: الأرقام الخاصة بالصين وروسيا (1992-2012) هي تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI).
لكن لا يزال من الممكن أن تذهب نقطة التحول هذه في عدة اتجاهات، فلا تزال فرص تغيير النظام في الكرملين ضئيلة، بالنظر إلى شعبية بوتين وآلة الإرهاب. ولقد سمعت أوروبا الغربية من قبل كلمات مقدسة عن الاندماج والهجرة. وانظر إلى قادة الغرب! بالكاد ينقل جو بايدن صورة ديناميكية تغير العالم؛ وبعد بطولاته الأولية، استقبل أولاف شولتز خطاب فولوديمير زيلينسكي أمام البرلمان الألماني ببرود شديد، ويبدو إيمانويل ماكرون عازمًا على الفوز في الانتخابات بينما يحاول أن يبدو مثل زيلينسكي؛ بقميص ولحية خفيفة، بينما تجرأ بوريس جونسون على مقارنة المقاومة الأوكرانية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبينما ننتظر تحرك هؤلاء العمالقة، تتغير الحقائق على الأرض في الاقتصاد والسياسة على حد سواء. وبشكل خاص، يعمل غزو أوكرانيا على تسريع التغييرات في كل من الجغرافيا السياسية والعقلية الرأسمالية اللتان تتعارضان بشدة مع العولمة.
تتلخص التغييرات في الجغرافيا السياسية في كلمة واحدة: الصين، إذ يُعتبر صعودها السريع الذي يبدو دون هوادة، الحقيقة الجيوسياسية المركزية في عصرنا.
السؤال الواضح للصين هو إلى أي مدى ستدعم بوتين في أوكرانيا؟؛ فعلى هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في فبراير، وقَّع شي وبوتين بيانًا يرفضان فيه توسع الناتو في أوروبا وبناء التحالف الأمريكي في آسيا واتفقا على أن تعزيز الديمقراطية كان مؤامرة غربية. ولا زالت الصين تفشل وبشكل ملحوظ في المشاركة في العقوبات الغربية. ولكن الآن بعد أن بدا انتصار بوتين أقل تأكيدًا، فإن دعم الصين له بدأ يبدو مشروطًا بشكل أكبر. فقبل أسبوع؛ مجرد شائعة بأن روسيا طلبت مساعدة عسكرية – وهي شائعة نفتها بكين على الفور – كانت قادرةً على إحداث أكبر انخفاض في سوق الأسهم الصينية منذ عام 2008. وفي نفس اليوم، نشر مركز الأبحاث الصيني، هو وي (Hu Wei)، مذكرة رائعة تحذر بلاده من أن غزو أوكرانيا ينعش الغرب، وأن الصين بحاجة إلى التخلص من العبء الذي تمثله روسيا.
وبغض النظر عما إذا كان زعيم الصين قد قرر التخلي عن بوتين، فإن الغزو قد أدى بالتأكيد إلى تسريع مهمة شي على المدى المتوسط، والمتمثلة في “الفصل”؛ أي عزل بلاده عن تبعية الغرب. لقد أمضى شي جزءًا كبيرًا من حكمه في بناء نظام اقتصادي مركزي من خلال مبادرة الحزام والطريق. وانضمت الصين إلى الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) التي تضم 15 عضوًا وتقدمت بطلب للانضمام إلى الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، التي تضم 11 عضوًا، وهي كتلة للتجارة الحرة اوجدتها الولايات المتحدة في الأساس، ثم تخلت عنها بكل حماقة.
إذا كان العصر الحالي للعولمة قد سهله السياسيون، فقد كان مدفوعًا برجال الأعمال؛ إذ لم يقرر رونالد ريغان ومارغريت تاتشر أن مكونات الآيفون يجب أن تأتي من 40 دولة، ولم يتم إنشاء فيس بوك بواسطة كبار السياسيين
بالنسبة لـ “مجموعة الذئاب” من القوميين الصينيين الشباب حول شي، فإن رد الفعل على أوكرانيا هو حجة قوية أخرى للاكتفاء الذاتي. كما تبدو حيازات الصين الهائلة من الأصول الدولارية كضمان بالنظر إلى استعداد أمريكا لمصادرة أصول روسيا، خاصة إذا كان النظام يفكر في غزو تايوان (حيث إن ادعائها بأن الجزيرة جزء ثقافي وقانوني من الصين يشبه بشكل مخيف مزاعم روسيا بشأن أوكرانيا).
بعض الأمريكيين حريصون بنفس القدر على الانفصال، وهو رأي كان يربط بين الجمهوريين والديمقراطيين قبل غزو بوتين لأوكرانيا. ربما يكون بايدن قد تخلى عن خطاب ترامب في كراهية الأجانب – فلم يعد هناك حديث عن “فيروس الصين” – لكنه احتفظ بمعظم التعريفات وضوابط التصدير وأنظمة الاستثمار التي ورثها، وأضاف القليل منها. بالنسبة للعديد من الأمريكيين؛ أوكرانيا هي حالة اختبار قبل تايوان: فهم لا يريدون أن ينتهي بهم الأمر بالاعتماد على المكونات التايوانية التي قد تختفي فجأة بنفخة واحدة.
وبالتالي؛ في غياب أي إجراء حاسم من جانب الغرب، تتحرك الجغرافيا السياسية بشكل قاطع ضد العولمة؛ أي نحو عالم يهيمن عليه اثنان أو ثلاثة من الكتل تجارية كبيرة: واحدة آسيوية، تقف الصين في مركزها، وربما روسيا كمورد طاقة لها؛ وكتلة بقيادة أمريكية؛ وربما تتمركز الكتلة الثالثة عند الاتحاد الأوروبي، مع الأوروبيين المتعاطفين على نطاق واسع مع الولايات المتحدة، لكنهم قلقون حول العودة المحتملة لعزلة أمريكا الأولى إلى البيت الأبيض، ومنزعجون من نهج أمريكا للتنظيم الرقمي والإعلام.
ستتأرجح القوى الأخرى بين هذه الكتل العظمى (اثنتين أو ثلاثة)، كما حدث خلال الحرب الباردة. فقد تفعل الهند ما فعلته بشكل جيد في أوكرانيا؛ حيث ستلعب على الجانبين. وسوف تميل باكستان نحو الصين لكنها لن تلتزم بشكل كامل أثناء وجود الهند في اللعبة. وستستغل المملكة العربية السعودية حالة عدم الاستقرار بشأن إمدادات الطاقة لمتابعة السياسات الوحشية في الداخل والسياسات الإسلامية في الخارج. وهكذا.
شعلة الحقائق
أهمية هذا التحول الجيوسياسي لا تقل عن أهمية تغيير العقلية الرأسمالية. إذا كان العصر الحالي للعولمة قد سهله السياسيون، فقد كان مدفوعًا برجال الأعمال.
لم يقرر رونالد ريغان ومارغريت تاتشر أن مكونات الآيفون يجب أن تأتي من 40 دولة، ولم يتم إنشاء فيس بوك بواسطة كبار السياسيين؛ ولا حتى بواسطة آل جور، ولم تكن أوبر ذراعًا لوزارة النقل.
من وجهة نظر رئيس تنفيذي؛ أدى غزو بوتين لأوكرانيا إلى أكثر من مجرد إطلاق الحظر الغربي وزيادة التضخم، إنه يدفن معظم الافتراضات الأساسية التي قام عليها فكر الأعمال حول العالم على مدار الأربعين عامًا الماضية.
في المعركة الفكرية الكبرى في التسعينيات بين فرانسيس فوكوياما، الذي كتب “نهاية التاريخ والرجل الأخير” في 1992 وأستاذه بجامعة هارفارد صمويل هنتنغتون، الذي كتب “صراع الحضارات” في 1996؛ كان الرؤساء التنفيذيون عمومًا قد وقفوا مع فوكوياما. وكانت وجهة النظر من مجلس الإدارة واضحة ومباشرة: لن تفوز الديمقراطية دائمًا فدرس الصين كان أكبر دليل للرأسماليين، لكن الاقتصاد العقلاني سيفعل ذلك عادة ويمكن للشركات أن تعتمد على عالم تتخصص فيه البلدان في ميزتها النسبية.
يزعم فوكوياما أن التجارة والتجارة الحرة ستقربان الناس بدلًا من تقسيمهم، كما حذر هنتنغتون من أن الشركات التي تدير نفسها عالميًّا ستزدهر وتنسج سلاسل التوريد الأكثر فعالية من حيث التكلفة.
أتى هذا الرهان بثماره بشكل مذهل من الناحية التجارية؛ فعلى مدار الخمسين سنة الماضية، حولت الشركات متعددة الجنسيات نفسها من اتحادات الشركات الوطنية إلى منظمات متكاملة حقًّا يمكنها الاستفادة الكاملة من اقتصاديات الحجم والنطاق العالمية وبالطبع الثغرات العالمية في الضرائب واللوائح.
وتضاعفت التجارة العالمية في السلع المصنعة في التسعينيات وتضاعفت مرة أخرى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وظلت الضغوط التضخمية منخفضة على الرغم من السياسات النقدية المتساهلة. وبقيت الأرباح مرتفعة حتى مع وابل من الاضطرابات السياسية وتعريفات ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما إلى ذلك؛ حيث ظلت تكلفة المدخلات مثل الطاقة والعمالة منخفضة.
المنحنى
يتعرض ما يمكن تسميته الوهم الكبير الرأسمالي للهجوم في كييف تمامًا كما تم إطلاق النار على نسخة نورمان أنجيل على الجبهة الغربية؛ حيث تتصاعد جميع الأخطار التي كانت تظهر في الجزء السفلي من الإحاطة الصباحية للرئيس التنفيذي كما تستمر العسكرة والمنافسات الثقافية في التغلب على المنطق الاقتصادي.
غزو بوتين لأوكرانيا هو مجرد واحد في قائمة طويلة من قرارات الإضرار بالنفس اقتصاديًّا، والتي تتراوح من البلطجة الأسرية (قصف المملكة العربية السعودية اليمن وقتل الصحفيين)، إلى الانعزالية المفاجئة (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). وهذه الحماقات تعزز بعضها البعض وهكذا. ويرد الفرنسيون على فعل بريطانيا لإيذاء النفس بمغادرة الاتحاد الأوروبي من خلال قطع شركاتهم عن المصدر الرئيسي لرأس المال الرخيص للقارة الموجود في مدينة لندن.
في مواجهة هذه اللاعقلانية المستمرة، فإن الرؤساء التنفيذيين الذين اعتادوا بناء إمبراطوريات على أساس الإنتاج في الوقت المناسب؛ ينظرون الآن فقط في حالة: إضافة إنتاج غير فعال أقرب إلى الوطن في حالة انقطاع مصانعهم الأجنبية.
وتحدث رئيس واحدة من أقوى شركات الاستثمار في العالم والتي لها أسهم في كل شركة غربية مهمة تقريبًا، بشكل خاص عن “تسونامي عمليات إعادة الحسابات” في نهاية الأسبوع بعد غزو بوتين لأوكرانيا؛ حيث يعترف الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات متعددة الجنسيات الأكثر شهرة في أمريكا بأنه يعيد فحص الإنتاج في جميع أنحاء الصين. وتتساءل كل شركة غربية الآن عن مدى تعرضها للمخاطر السياسية؛ فلقد صار كل الرأسماليين الآن يتبنون كلام هنتنغتون.
لا يستطيع الخوف فقط تغيير العقلية الرأسمالية، إذ يكتسب الجشع أيضًا صبغة معادية للعالمية، فيتساءل الرؤساء التنفيذيون بعقلانية عن كيفية الاستفادة مما أسماه كينز “الاحتكارات والقيود والاستثناءات”. واليوم؛ بما أن الحكومات تستخدم الأمن القومي كذريعة للأبطال الوطنيين، أصبح بإمكان رجال الأعمال الاختيار ما بين مجموعة متنوعة من فرص البحث عن الريع وسحق المنافسة في بعض الصناعات مثل الطاقة والأدوية وأشباه الموصلات.
وفي يومنا هذا؛ يردّد التاتشري السابق، ناريندرا مودي، كلمات مهاتما غاندي التي تدعو إلى الاكتفاء الذاتي وتفرض تعريفات على الصناعات المحلية. وأنشأ رئيس الوزراء الياباني الجديد، فوميو كيشيدا، منصب وزير الأمن الاقتصادي مع تفويض بالتدخل في الأمن السيبراني وصناعة الرقائق وغيرها الكثير، بينما أعلن ماكرون أن “الدولة ستحتاج إلى تولي عدة جوانب من قطاع الطاقة”. إلى جانب ذلك؛ استغل بايدن خطابه السنوي عن حالة الاتحاد في الأول من آذار/ مارس ليعلن أن “كل شيء من سطح حاملة الطائرات إلى الفولاذ الموجود على حواجز حماية الطرق السريعة مصنوع في أمريكا من بداية العملية إلى نهايتها” وسط تصفيق كلا الجانبين من الكونغرس.
يبدو أن العصر الثاني للعولمة يتلاشى بسرعة، وفي حال لم تُتَّخَذ أي إجراءات بسرعة وحسم، فإن العالم سينقسم إلى معسكرات معادية – بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا – ولن يناسب هذا العالم المنقسم الغرب. انظر إلى القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وستجد أن من أكثر الأرقام المبالغ فيها هي أن 40 دولة فقط لم تصوت لصالح هذا القرار (35 دولة امتنعت عن ذلك، وخمسة دول صوتت ضده)، مقارنة بـ 141 دولة صوتت لصالحه؛ ولكن تلك البلدان الأربعين، والتي تشمل الهند والصين، تمثل غالبية سكان العالم.
في الواقع؛ تزيد هذه التغييرات العميقة في الرأسمالية والجغرافيا السياسية من المخاطر التي قد تتبلور هذا الأسبوع؛ حيث يواجه جو بايدن ومحاوروه الأوروبيون العديد المسائل المتعلقة بالإرهاب المتصاعد والتهديدات النووية التي يسببها بوتين، لكنهم بحاجة أيضًا إلى معالجة التداعيات الاقتصادية الأوسع للحرب عاجلًا وليس آجلًا، لكن عدم فعل أي شيء سيتسبب في تسارع الانجراف نحو السياسة الحمائية حتمًا. وعلى سبيل المثال؛ يبدو أن الصينيين متأكدون تمامًا من أن الغرب يفتقر إلى الشخصية المتماسكة للحفاظ على موقفه الحالي مع ارتفاع أسعار الطاقة، ولكن لا يزال لدينا الوقت لتشكيل مستقبل مختلف تمامًا: وهو مستقبل تزداد فيه الثروة العالمية ويعزز فيه التحالف الغربي.
على الرغم من رئاسته المتوسّطة حتى الآن، يقدّم بايدن لأوروبا العديد من المزايا الهامة، أولها أن الغرب أكثر اتحادًا وتصميمًا مما كان عليه منذ عقود، كما لم يعد يقتصر الشعور بالوحدة المدفوع بالقيم الليبرالية على النخبة الحضرية؛ فقد تمثّلت إحدى أكبر المشكلات التي واجهتها الليبرالية الحديثة على مدى العقود القليلة الماضية في افتقارها إلى سرد مؤثر ومجموعة مقنعة من الأبطال والأشرار. ولطالما أشار دعاة العولمة إلى “الميزة النسبية” و”الحواجز غير الجمركية”، بينما ركّز الشعبويون على النخب الساخرة والمؤامرات الخفية، لكن اليوم عكس بوتين كل هذه المفاهيم عن غير قصد؛ حيث تمثّل الحرية العقيدة الخاصة بالأبطال مثل زيلينسكي، بينما مناهضة الليبرالية هي عقيدة الوحوش الذين يسقطون القنابل على الأطفال.
تتمثّل ثاني ميزة في خبرة بايدن الطويلة، فقد تعرض جورج دبليو بوش، نائب الرئيس الذي خدم لفترة طويلة وحظي مصادفة بالمنصب الكبير، للسخرية كثيرًا لافتقاره إلى مفهوم “الرؤية”، ومع ذلك، كان أسلوب تعامله مع الأيام الأخيرة للإمبراطورية السوفيتية في عام 1989 مثاليًا: فقد قدم لميخائيل جورباتشوف التشجيع وقاوم الانتصار السابق لأوانه، وعمل مع الحلفاء لإرساء أسس نظام عالمي جديد. إلى غاية الآن، كان تعامل بايدن مع غزو أوكرانيا دقيقًا بالمثل، فلقد رسم خطًّا فاصلًا بين دعم المقاومة والانخراط في الحرب (أو إعطاء الآخرين ذريعة للادعاء بأن الولايات المتحدة متورطة في الحرب)، كما أنه مارس ضغوطًا شديدة على الصين لإبقائها خارج الصراع.
على بايدن الذهاب أبعد في الأسابيع القادمة، وعليه تعزيز التحالف الغربي ليكون بمقدوره تحمل العواصف المحتملة القادمة، وبينما أمضى الرئيس الأمريكي سنته الأولى في منصبه متحدثًا عن إعادة إشراك أمريكا مع العالم بعد العزل الذي سببه ترامب، وتشكيل تحالف من الديمقراطيات، إلا أنه حتى الآن فشل في إعطاء حلفائه القاعدة الاقتصادية الداعمة لربط هذه التحالفات معًًا؛ خاصةً معاهدات التجارة الحرة. وقد أُوفِدَت وزيرة تجارته إلى آسيا العام الماضي، للتحدث عن دعوة بلدان مثل سنغافورة وماليزيا لمناقشة أشياء مبهمة مثل “أطر العمل”، في حين أن كل ما يريده حلفاء أمريكا الآسيويون حقًّا هو صفقة تجارية قوية، في الواقع؛ صفقة مثل صفقة “اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ” (CPTPP) والتي أبطلها ترامب.
تشييد مثل هذا “النظام العالمي الجديد” سيكون عملًا شاقًا. لكن البديل هو تقسيم العالم إلى كتل اقتصادية وسياسية معادية قادمة مباشرة من الثلاثينيات.
يحتاج بايدن لأن يدرك أن توسيع ترابطه الاقتصادي بين حلفائه هو حتمية جغرافية – إستراتيجية، وعليه أن يقدم لأوروبا صفقة تجارة حرة شاملة لربط الغرب معًا؛ ومن الممكن أن تكون نسخة معدلة قليلًا عن شراكة التجارة والاستثمار العابرة للأطلسي المرفوضة، وفقًا للتقارب التنظيمي “والذي بموجبه يكون أي منتج آمن للبيع في الاتحاد الأوروبي هو آمن كذلك للبيع في أمريكا، والعكس صحيح”، وعليه أيضًا أن ينضم إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP).
لن يكون من الصعب تخيل أوروبا وآسيا الديمقراطية تبرمان مثل هذه الاتفاقيات، بالنظر للصدمة التي خلفها عدوان بوتين وخوفهم من الصين؛ فمشكلة بايدن داخلية. لماذا على اليسار الديمقراطي تقبل هذا؟ لأن – كما يجب أن يقول بايدن – أمن أوكرانيا والصين وأمريكا أكثر أهمية من أصوات الاتحاد؛ حيث إن مهمة الرئيس الأولى هي حماية بلاده. وبايدن كبير بما يكفي ليتذكر أن الولايات المتحدة فازت بالحرب الباردة الأخيرة بسلام لأنها وحدت العالم الحر وراءها. وهذه هي الطريقة للفوز بالحرب التالية بسلام أيضًا. لكن جمع الإمكانيات الاقتصادية في العالم الحر – الاتحاد الأوروبي، وأمريكا الشمالية، واقتصادات أمريكا اللاتينية الكبرى وديمقراطيات آسيا – يمكنه أن يقوم بما هو أكثر من توديع الأنظمة الاستبدادية؛ يمكنه أن يسحبهم للحرية.
على بايدن أن يسعى لإستراتيجية من مرحلتين: أولًا، تعميق الاندماج الاقتصادي بين الدول ذات التفكير المتشابه؛ مع ترك الباب مفتوحًا للنظم الاستبدادية إذا أصبحوا أكثر مرونة؛ حيث قد تسعى الصين للحرية. لكن لا شيء سيتغير ما لم يلصق بايدن العالم الحر مع بعضه، وهذا يعني تجارة أكثر حرية – وكلما أسرع في إخبار حزبه، كلما كان ذلك أفضل.
ويستطيع بايدن أن يخفف من حدة هذه الرسالة في الداخل بإضافة بُعد سياسي لأجندته التجارية؛ حيث ينطبق مصطلح “إعادة البناء بشكل أفضل” على العولمة كذلك. ومن المؤكد أن أي صفقة عالمية جديدة لا بد أن تتضمن التركيز على جعل الشركات متعددة الجنسيات تدفع ضرائبها، ويجب أن تحتل البيئة الصدارة. لكن على بايدن أيضًا أن يتكلم عن الثمن الحقيقي للحمائية من حيث ارتفاع الأسعار، وتقليل الإبداع وجودة المنتجات. ويبقى نشر الحرية الاقتصادية أفضل ضامن للازدهار الأمريكي والعالمي: الازدهار العالمي لأن – مع كل متاعبه – الخمسين سنة الماضية للعولمة أثرت في أغلب أنحاء العالم؛ والازدهار الأمريكي لأن ازدهار بلاده يعتمد على أمنها.
إن تشييد مثل هذا “النظام العالمي الجديد” سيكون عملًا شاقًا. لكن البديل هو تقسيم العالم إلى كتل اقتصادية وسياسية معادية قادمة مباشرة من الثلاثينيات. وعلى كل من بايدن وجونسون وشولز وماكرون التفكير جيدًا في الكيفية التي سيحكم بها التاريخ عليهم. هل يريدون أن يتم مقارنتهم مع صانعي السياسة في تبعات الحرب العالمية الأولى، الذين وقفوا متفرجين بينما تمزق العالم واستولى الوحوش على مقاليد السلطة؟ أم يفضلون مقارنتهم بأقرانهم بعد الحرب العالمية الثانية، صانعي السياسة الذين بنوا عالمًا أكثر استقرارًا وترابطًا؟
لن يفهم أحد جسامة هذا الخيار أفضل من كينيز؛ حيث برز لأول مرة كصاحب معاهدة فرساي؛ ورجال الدولة غير العارفين في ذلك الوقت. لكن في نهاية الحرب العالمية الثانية شارك في أمر أكثر بنائية.
في سنة 1949، ومع هزيمة هتلر التي بدت حتمية، دعا الرئيس فرانكلين روزفلت القوى المتحالفة إلى مؤتمر لوضع نظام ما بعد الحرب – تحت رعاية كينيز – وعلى الجانب الأمريكي والاقتصادي – هاري ديكستر وايت.
كان كينيز المسن يعاني من مشاكل في القلب وكراهية شديدة للصيف الأمريكي – “يتعرق الشخص طوال اليوم ويلتصق التراب بوجهه” – لذلك كان سعيدًا أن المؤتمر عقد في نيو هامبشاير بدلًا من العاصمة الفيدرالية الجهنمية؛ حيث تم اختيار فندق ماونت واشنطن – في منطقة وايت ماونتن – جزئيًا بسبب المناخ، لكن أيضًا لأنه يحتوي على جميع وسائل الراحة للحياة المتحضرة – محطته الخاصة للطاقة، ومكتب بريد، وملعب جولف، وكنيسة وصالون تجميل، كذلك حلاق وصالة بولينج وسينما.
وكان هذا هو موقع عقد معظم المؤتمرات منذ مؤتمر باريس الكارثي للسلام في 1919. لعب كينيز والذي لم يعد حمائيًّا، دورًا رئيسيًّا في تشكيل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي والبنية الأساسية للنظام الغربي لأسعار الصرف المستقرة بعد الحرب. وساعد في إقناع أمريكا على قيادة العالم بدلًا من التراجع إلى نفسها. وساعد في إنشاء أمريكا المصورة في خطة مارشال. وقد أنشأت تسوية بريتون وودز هذه النظام الذي انتصر في النهاية في الحرب الباردة وأرسى الُأسس للعصر الثاني من العولمة.
وفي المأدبة الختامية في 22 تموز/يوليو، تم توجيه تحية للرجل العظيم بحفاوة بالغة. وقد توفي بعد ذلك سنتين؛ لكن العالم الذي بذل الكثير لخلقه عاش من بعده. لا يحتاج العالم أن يموت في طرقات كييف. لكنه من المرجح أن يفعل، ما لم يغتنم الزعماء المجتمعين هذا الأسبوع الفرصة لخلق شيء أفضل.