ابراهيم درويش
قالت صحيفة “الغارديان” إن استعراض الرئيس الروسي فلاديمير بوتينالغريب والغاضب، سيكون بالتأكيد نقطة تحول هامة في حكمه الطويل. فنحن أمام “مرشد أعلى” يصدر أوامره على حشد من أتباعه في قرار سيغير المعمار الأمني الأوروبي وقد يقود إلى حرب فظيعة.
وجاء في التقرير الذي أعده شون وولكر، أن بوتين الذي كان جالسا على مقعد بمفرده في قاعة من الأعمدة بالكرملين، نظر عبر الأرضية الخشبية الواسعة إلى مجلس أمنه القومي وسأل إن كان أحد يريد التعبير عن رأيه أو لديه رأي بديل، وقوبل بالصمت. وبعد ساعات ظهر الرئيس على شاشة التلفاز الرسمي الروسي لكي يقدم خطابا غاضبا ومشتتا حول أوكرانيا، البلد الذي وصفه بوتين بـ”مستعمرة” يديرها نظام دمى ولا حق تاريخيا له للوجود.
والظهور المزدوج لبوتين الذي أعقبه توقيع على اتفاق اعترفت فيه روسيا باستقلال دولتين وكيلتين في شرقي أوكرانيا، من المحتمل أن يكون نقطة تحول هامة في حكمه الممتد على مدار 22 عاما. ولم يكن المشهد لرئيس جمع فريقه للنقاش، ولكن “مرشدا أعلى” يلقي الأوامر على أتباعه، مؤكدا على المسؤولية الجماعية في قرار قد يغير المعمار الأمني لأوروبا وربما قاد إلى حرب فظيعة تأكل أوكرانيا.
وبدا بوتين غاضبا بشكل واضح وعاطفيا في خطاب كتبه بنفسه على ما يبدو. وفي صورة عن عزلته المتزايدة وبدون معادلين له يمكنهم الرد عليه أو مناقشته، بدا بوتين في الفترة الأخيرة وهو يقابل وزارءه والسياسيين عبر طاولات طويلة وواسعة بشكل واضح، كإجراء وقائي من كوفيد- 19 على ما يبدو. ولكن الطاولة الطويلة كانت مناسبة يوم الإثنين للقاء أعضاء مجلس الأمن القومي، وهذا ما لم يحدث، فقد جلس بوتين منفردا على طاولة وأخذ ينظر لأتباعه من على بعد، حيث بدوا وهم يتلوون على كراسيهم، علامة على عدم الارتياح، وينتظرون دورهم للمساءلة من رئيسهم.
وظهر بوتين من خلف مكتبه وهو يبتسم أكثر من مرة بسخرية، واستمع لكل واحد منهم. ويحتوي المجلس على عدد من الأعضاء المقربين، لكن بعضهم بدا عصبيا. وتلعثم مدير المخابرات، سيرغي ناريشكن، المعروف بموافقه المتشددة والمعادية للغرب عندما سأله بوتين إن كان يدعم القرار. وذكره بوتين مرتين “تحدث مباشرة”. وبعد جهد، قال ناريشكن إنه يدعم ضم الإقليمين لروسيا، وذكّره بوتين أن الموضوع لم يكن عن الضم بل الاعتراف باستقلالهما. واقترح البعض أن المشهد مدبر بعناية ليذكر الغرب بالخيارات المتوفرة لدى بوتين، لكن تلعثم ناريشكن وعدم ارتياحه يؤكد غير هذا.
ولا يُعرف إن كان بوتين قد اتخذ قراره بشأن أوكرانيا قبل أشهر أو أنه كان يتخذه بدون تخطيط وبناء على الظروف. ومن الواضح أن قرار الاعتراف اتُخذ قبل المشهد الغريب المدبر. ولم يكن هناك أي تبادل للرأي، وكذّبت اللقطات القريبة فكرة أن اللقاء مباشر على الهواء، وتشير إلى أنه “مسجل” قبل ساعات. وهذا لم يمنع بوتين من القول إن المناسبة هي تبادل صريح للآراء. وقال: “كل واحد منكم يعرف وأريد التأكيد على هذا الأمر بصراحة، وأنني لم أناقش هذا الأمر معكم من قبل، ولأنني أردت الاستماع لآرائكم بدون تحضير مسبق”.
لكن ظهور بوتين بعد عدة ساعات ليلقي محاضرته الطويلة المجهزة مسبقا، تجعل من هذا الكلام وأنه تلقائي، أمرا غير متخيل. وقدم فريق بوتين انطباعا بأنهم كانوا يصدقون الرواية الدعائية التي بنتها روسيا لتبرير عدوانها ضد أوكرانيا. وقدمت المرأة الوحيدة في المجلس، فالنتينا ماتفيينكو، خطابا مطولا جمعت بنوده من نقاط الحديث الغريبة في نشرات الأخبار الروسية: الأبرياء الروس يواجهون الغرب الشائن الذي يدعم نظام كييف الإبادي.
ولم يكن الجميع متحمسين. فرئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين تحدث بشكل مختصر وكان غير مرتاح بشكل واضح. ولم يرد بوتين أن يتركه بدون أن يقسم الولاء ويدعم القرار، وسأله مباشرة إن كان مع الجميع؟ فتمتم ميشوستين بالموافقة، وهو الآن من ضمن “الشلة” التي وافقت علنا على قرار بوتين، ولا يمكنهم الزعم لاحقا أنهم عارضوه. ومن المحتمل أن بوتين لديه أكثر من مجرد أخذ لقمة من شرق أوكرانيا والسيطرة على المناطق الواقعة فعليا تحت سيطرته. وكانت كلمات بوتين الأخيرة هي تحميل كييف مسؤولية “سفك الدماء” إن استمرت في ممارسة العنف، وكانت منذرة بالشر وبمثابة إعلان الحرب.
وعلقت صحيفة “التايمز” في تقرير لمارك بينيت، قائلة إن الغرب لا يعجب بالرئيس بوتين، لكن نقاده يعترفون بأنه يتحدث بطريقة جيدة، لكن البلاغة خانته يوم الإثنين عندما أعلن اعترافه بإقليمين في أوكرانيا.
وفي خطابه المشتت الذي استمر ساعة تقريبا، انحرف الرئيس بوتين في كلامه باتجاه إلقاء درس في التاريخ: “أوكرانيا خلقتها روسيا، وبالتحديد نظام البلشفيك، روسيا الشيوعية”، مضيفا أن فلاديمير لينين كان “المؤلف والمعماري” لأوكرانيا.
وتحدث بوتين عن جهود أوكرانيا لنزع تماثيل الحقبة الشيوعية وإعادة تسمية البلدات بأسماء غير المسؤولين الشيوعيين: “تريدون التخلص من الشيوعية؟ لا تقفوا في منتصف الطريق ونحن مستعدون لنري أوكرانيا ماذا يعني التخلص من الشيوعية حقيقة”. وفي العام الماضي، كتب بوتين مقالا من 5.000 كلمة أكد فيه على وحد الأخوة الأبدية بين أوكرانيا وروسيا وبتاريخ مشترك. فردّ عليه الرئيس الأوكراني فولدومير زيلنسكي ساخرا: “نعم مثل هابيل وقابيل”.
وتقول الصحيفة إن خطاب بوتين يوم الإثنين يتناقض مع اللحظة الجيدة عام 2007 في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي تحدث فيها وبوضوح عن معارضة روسيا للهيمنة الأمريكية العالمية. وفي عام 2018، حيّته النخبة في موسكو عندما قال إن الغرب تجاهل تحذيرات روسيا وأجبرها على تحديث ترسانتها.
أما الآن فيبدو بوتين مثل شخصية معزولة، وعلى المسؤولين الحجر قبل مقابلته لحمايته من كوفيد-19. ويقضي معظم وقته في سكنه الريفي، مما أدى لإطلاق لقب “الرجل العجوز في ملجئه”. وهناك من تساءل عن حالته العقلية.
وقال ديمتري كودكوف، الناقد الحاد للكرملين: “هناك حاجة لطبيب نفسي”.