يبدو أننا وصلنا أخيرًا إلى نقطة تحول التغيرات المناخية إلى واقع بادٍ للعيان بشكل صارخ، ولا يحتاج إلى علوم بيانات لإثباتها؛ فها هي الحرائق على غير عادتها تجتاح المنطقة المتوسطية من الجزائر وتونس إلى تركيا واليونان، والفيضانات تضرب في ألمانيا والصين في ذروة فصل الصيف، وموجات حرارة تاريخية تسجلها أمريكا الشمالية الباردة.
في الواقع، التغير المناخي حقيقة أثبتها علماء المناخ بالبيانات منذ سنين، وتوقعوا اشتداد الجفاف والفيضانات والحرائق مع تزايد متوسط حرارة الكوكب منذ فجر الثورة الصناعية في بداية القرن التاسع عشر. والمتهم الرئيسي، بالطبع، هم نحن البشر، بسبب زيادة تركيز الغازات الدفيئة الناجمة عن الأنشطة الاقتصادية البشرية في الغلاف الجوي.
يشير أحدث تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، وهي مجموعة أبحاث علوم المناخ التابعة للأمم المتحدة، بشكل لا لبس فيه إلى أن «التغيرات المناخية الواسعة النطاق والسريعة حدثت بالفعل في كل منطقة مأهولة في جميع أنحاء العالم، والعديد من هذه التغيرات لا رجوع فيها».
وصل معدل زيادة الاحترار العالمي، حتى اللحظة، إلى 1.2 درجة مئوية مقارنة بحرارة الكوكب قبل الثورة الصناعية، ويحذر فريق العلماء الذي أنجز التقرير الأممي حول المناخ، من أن العالم من المرجح أن يتجاوز معدل 1.5 درجة مئوية من الاحترار، خلال العشرين أو الثلاثين سنة القادمة، حتى لو خَفَّضَ البشر انبعاثات الوقود الأحفوري على الفور.
وبما أن حرارة الأرض ستشتد مع مرور السنوات في القادم بشكل مؤكد، فإن أحداث الطقس المتطرف هي الأخرى من الفيضانات والجفاف والحرائق إلى موجات الحر ستزداد حدة وتواترًا واتساعًا؛ إذ إن كل درجة حرارة مئوية تضاف إلى متوسط حرارة الأرض، تزيد معها حدة التغيرات المناخية تطرفًا.
تقع المنطقة المغاربية، بحكم موقعها الجغرافي، في قلب هذه التغيرات المناخية؛ مما يجعل مجتمعاتها أكثر عرضة لتبعات زيادة الاحترار العالمي اليوم ومستقبلًا، على الرغم من تناسيها هذا التهديد في ساحتها الداخلية سياسيًّا وإعلاميًّا.
في هذا التقرير نرصد مستقبل التغيرات المناخية في المنطقة المغاربية، خلال العقدين القادمين، وذلك اعتمادًا على أداة تفاعليةأطلقتها اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) التابعة للأمم المتحدة، وهي توضح تغيرات الطقس المستقبلية في جميع أنحاء العالم في ظل الاحترار العالمي، بناء على كم هائل من البيانات العلمية المُعالَجة بواسطة حواسيب عملاقة.
خطر محدق.. مستقبل التغيرات المناخية في المنطقة المغاربية
تمثل السيناريوهات الآتية لمناخ المنطقة المغاربية توقعات العلماء، ما يعني أنها ليست دقيقة 100% مستقبلًا، لكنها سيناريوهات معقولة جدًّا مستندة إلى أجود البيانات المتوفرة حاليًا، بخاصة وأنه من غير المحتمل أن تستطيع البشرية عكس مسار التغيرات المناخية الجارية في العقد أو حتى العقدين القادمين، إن لم تزد الأمر سوءًا، لذا سنركز على هذه الفترة تحديدًا، أي من 2021- 2040.
ستشمل تنبؤات اتجاهات الطقس لكل من المغرب والجزائر وتونس ثلاثة مستويات، وهي الحرارة، والأمطار، ومنسوب سطح البحر.
ولتسهيل العرض سنميز بين منطقتين مناخيتين:
الأولى: تضم تونس والشريط الشمالي للمغرب والجزائر المطل على البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى مناطق أخرى حول البحر الأبيض المتوسط.
الثانية: تضم وسط وجنوب كل من الجزائر والمغرب إضافة إلى مناطق أفريقية أخرى.
1- على مستوى درجات الحرارة
– المنطقة المناخية الأولى
يظهر المنحنى أن معدل الحرارة سيستمر في الارتفاع في هذه المنطقة خلال العقدين القادمين (الفترة المظللة في المنحنى أعلاه)، ببطء ولكن بدون توقف، بحيث من المتوقع أن تصل إلى زيادة بمعدل 1.8 درجة مئوية على الأقل بحلول 2030، و1.9 بحلول 2040، متجاوزة السقف المحدد في اتفاقية باريس وهو 1.5، والذي يحذر العلماء من تجاوزه، لما له من تداعيات خطيرة على الإنسان.
– المنطقة المناخية الثانية
أيضًا في المنطقة المناخية الثانية ستستمر درجة الحرارة في الارتفاع، غير أنها ستكون على نحو أسرع، بحيث من المتوقع أن تصل على الأقل إلى 1.9 درجة مئوية بحلول 2030 و2.3 بحلول 2040.
واستنادًا إلى ما سبق، فإن درجة الحرارة في كل من المغرب والجزائر وتونس ستزيد في العقدين القادمين، ولا سيما المنطقة الوسطى والجنوبية؛ مما سيزيد الجفاف والتصحر حدة هناك، في حين ستعاني الغابات الخضراء بالمناطق الشمالية للبلدان الثلاثة من الذبول والحرائق نتيجة تزايد الحرارة!
2. على مستوى هطول الأمطار
– المنطقة المناخية الأولى
كما هو جلي في الرسم البياني، يبدو أن هذه المنطقة المناخية المعروفة عادة بالتساقطات، ستشهد تناقصًا شديدًا في هطول الأمطار مع مرور السنوات، بحيث تصل على الأقل إلى معدل -7% بحلول 2040.
ومن الملفت للانتباه أن هذا المعدل يرتفع إلى ما بين-15% و-20% في شمال المغرب، ويصل إلى ما بين -10% و-13% في شمال الجزائر، أما تونس فسيصل إلى ما بين -8% و-10%، في حين تنخفض هذه النسبة في باقي المناطق المتوسطية.
– المنطقة المناخية الثانية
على نحو غير متوقع، يحتمل أن تشهد هذه المنطقة المعروفة بالجفاف تزايدًا في التساقطات المطرية في القادم، خاصة في فصل الصيف، بزيادة 14.5% بحلول 2040.
لكن لسوء الحظ كما يبدو في الخريطة، لن تستفيد المناطق المغاربية من هذه الزيادة، باستثناء الشريط الجنوبي للجزائر، بقدر ما ستتركز تلك الزيادة المطرية في العمق الأفريقي ببلدان مثل مالي والنيجر والتشاد.
ومما سبق، يتبين بشكل واضح أن البلدان المغاربية الثلاثة بشمالها وجنوبها ستواجه تناقصًا في معدلات التساقطات السنوية خلال العقدين القادمين، ولا سيما المغرب.
3. على مستوى منسوب سطح البحر
يتوقع أن ترتفع مياه المحيطات بشكل طفيف في السواحل الشمالية للجزائر وتونس والمغرب، زيادة على الساحل الغربي للمغرب من الدار البيضاء إلى طنجة، بمعدل طفيف يصل لـ0.1 متر بحلول 2040، مثل معظم بقية سواحل العالم.
ما يعني أن سواحل البلدان المغاربية الثلاثة مهددة بالإغراق نتيجة ارتفاع منسوب مياه سطح البحر على الأقل خلال العقدين المقبلين، مثل سواحل كاليفورنيا والفلبين، غير أن هناك ظواهر أخرى قد تسبب تآكل السواحل مثل التسونامي.
الجفاف.. الخطر الأكبر الذي يُحدق بالمغرب العربي
تظهر الرسومات السالفة، المستندة إلى البيانات، أن المنطقة المغاربية بالفعل تقع في فوهة التغيرات المناخية، حيث من المنتظر أن تشهد تزايدًا في درجة الحرارة وتناقصًا في نسبة الأمطار مع مرور السنوات خلال العقدين القادمين، ولا سيما وسط الجزائر، ووسط وجنوب المغرب.
وفي ظل هذا المشهد يصبح الخطر الأكبر من حيث التغيرات المناخية في المنطقة المغاربية هو الجفاف، وما يمثله من تهديد للأمن الغذائي والمائي لهذه المجتمعات، وربما يتسبب في هجرات جماعية من الجنوب نحو الشمال، بعد أن يصبح الوضع غير قابل للتكيف، الأمر الذي يستدعي من حكومات المنطقة تفعيل خطط ومشروعات لمواجهة الجفاف قبل فوات الأوان.