الرئيسية / أخبار / انتصار طالبان وهواجس دول الجوار

انتصار طالبان وهواجس دول الجوار

لا تزال أصداء السيطرة الطالبانية على أرجاء أفغانستان كافة بهذه السرعة وبتلك الطريقة، تلقي بظلالها على المشهد العالمي برمته، الذي يعاني من حالة من الذهول وربما الصدمة مما حدث، لتطوي الحركة في أيام معدودة صفحة عشرين عامًا من التأهيل العسكري للجيش الأفغاني النظامي على أيدي القوات الأمريكية أنفقت خلاها مئات المليارات من الدولارات.

هذا السقوط المدوي للدولة الأفغانية في قبضة حركة طالبان، بجانب أنه أحدث ارتباكًا كبيرًا في الخريطة السياسية الداخلية، إلا أن تداعياته تجاوزت النطاق الجغرافي الضيق للبلاد إلى دول الجوار على وجه الخصوص، في المقدمة منها القوى الإقليمية الثلاثة الملاصقة للحدود الأفغانية،الهند والصين وباكستان.

شهدت العلاقات بين الحركة وتلك القوى على مدار السنوات الماضية موجات من المد والجزر، في ضوء الخصومة التاريخية بينهم لا سيما مع الهند والصين، الأمر الذي من المرجح أن يكون له ارتداداته بعد سيطرة طالبان على المشهد الأفغاني بهذه الكيفية غير المتوقعة.

الإرهاصات الأولية لاستعادة طالبان حضورها السياسي المفقود، وفرض نفسها كلاعب رئيسي في ملعب المفاوضات مع الجانب الأمريكي، خلال الأعوام الأخيرة، كان دافعًا قويًا لتلك القوى المجاورة لمحاولة تلطيف الأجواء مع الحركة تحسبًا لأن تكون رقمًا مهمًا في خريطة البلاد مستقبلًا، لكن الأمور تسارعت بوتيرة غير محسوبة، ليجد الجميع طالبان داخل القصر الجمهوري، فهل تسعف تلك الدول مساعيها الدبلوماسية لتبريد الأجواء مع السلطة الجديدة لدولة الجوار؟

مخاوف دول الجوار

تصاعدت مخاوف القوى المجاورة الثلاثة مع سيطرة طالبان على مقاليد الحكم بصورة كاملة، خاصة بعد رد الفعل الباهت من المجتمع الدولي خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت بالأمس لمناقشة هذا الملف، وبات القبول بالأمر الواقع هو السمة الغالبة مع الحث على وجود عدد من الضمانات للحيلولة دون الولوج في مستنقع العنف.

صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، في تحليل نشرته لكل من جيري تشيه وريبيكا تان ونيها ماسيه، استعرضت مخاوف الهند وباكستان والصين بعد صعود الطالبان مجددًا، لافتة إلى أن ما حدث مثل صدمة كبيرة للعديد من الحكومات في المنطقة.

على المستوى الباكستاني تذهب الصحيفة إلى أن ما حدث وإن كان يمثل انتصارًا إستراتيجيًا باكستانيًا على الهند، إلا أنه ربما يشكل كابوسًا، إذ إن انتصار “طالبان أفغانستان” قد يعطي دفعة لحركة “طالبان باكستان” التي دخلت في صدام مع الحكومة الباكستانية، ورغم الخلاف بين الحركتين في الأيديولوجية والأهداف، فإن ما حدث أقلق الحكومة الباكستانية، المتهمة بدعم طالبان في السيطرة على بلادهم.

وهنديًا.. فإن ما حدث يزيد من مخاوف نيودلهي بشأن الوضع في إقليم كشمير المتنازع عليه، في ظل التوترات الحدودية المتأججة بين الحين والآخر، مع باكستان من جهة والصين من جهة أخرى، وهو ما يجعل الانتصار الطالباني مصدر قلق وتهديد للأمن في الإقليم.

ملف اللاجئين هو الآخر تهديد يثير مخاوف دول الجوار كما يثير مخاوف الغرب بصفة عامة، فمن المتوقع نزوح أعداد كبيرة خارج البلاد خلال المرحلة القادمة لحين استجلاء الوضع

الوضع كذلك في الصين، فسيطرة طالبان والانسحاب الأمريكي وبقية القوات الأجنبية التي كانت موجودة في أفغانستان يزيد من مخاوف زيادة رقعة الجماعات المتشددة التي قد تجد في أفغانستان ملاذًا لها بحسب التخوفات الصينية، وهو ما قد يهدد مشاريع البنية التحتية الطموح التي تشيدها بكين غربًا عبر أوراسيا، بحسب “واشنطن بوست”.

الصحيفة استشهدت بالتفجير الانتحاري الذي استهدف حافلة تقل عمال بناء صينيين شمال غربي باكستان، في يوليو/تموز الماضي، الذي أسفر عن مقتل 13 شخصًا، للوقوف على حجم التهديدات التي تمثلها الفوضى الأمنية في أفغانستان على مشروعاتها في المنطقة.

يذكر أن البلدين يتقاسمان شريطًا حدوديًا بطول 76 كيلومترًا، ورغم أن الغالبية العظمى لهذا الشريط عبارة عن مرتفعات شاهقة لا تتخللها أي معابر حدودية، لكنها في الوقت ذاته تمتد بمحاذاة منطقة شينغيانغ ذات الأغلبية المسلمة، تشكّل مصدر قلق كبير لبكين التي تخشى أن يستخدم الأويغور أفغانستان كنقطة انطلاق لشن هجمات.

الوضع في إيران لا يختلف كثيرًا عن نظيره في الدول الثلاثة، إن لم يكن أكثر خطورة، فالدولة التي طالما اعتبرت الحركة “جماعة متطرفة” باتت اليوم في مواجهة مباشرة معها كسلطة جديدة، وتتصاعد المخاوف مع اتساع طول الخط الحدودي الذي يربط بين البلدين الذي بلغ قرابة ألف كيلومتر، الأمر الذي يهدد أمن واستقرار طهران في حال خرج الوضع عن السيطرة في الداخل الأفغاني.

كما نقلت الصحيفة الأمريكية عن الباحث في “صندوق مارشال الألماني” أندرو سمول، مؤلف كتاب “المحور الصيني الباكستاني: الجغرافيا السياسية الجديدة لآسيا”، قوله إن هناك مستويات متفاوتة من المخاوف في إسلام آباد ونيودلهي وبكين، بسبب سهولة وسرعة استيلاء طالبان على السلطة، لافتًا إلى أن إسلام آباد التي سهلت عودة طالبان إلى السلطة “لم ترحب على الأرجح بالطريقة التي تمت بها الأمور. ستكون هناك الآن مواقف صينية أكثر صرامة وضغوط لضمان الاستقرار في الجوار”.

اللاجئون.. كابوس آخر

ملف اللاجئين هو الآخر تهديد يثير مخاوف دول الجوار كما يثير مخاوف الغرب بصفة عامة، فمن المتوقع نزوح أعداد كبيرة خارج البلاد خلال المرحلة القادمة لحين استجلاء الوضع في ظل الصورة المشوهة والمثيرة للقلق عن الحركة الطالبانية لدى قطاع كبير من الشعب الأفغاني التي ترسخت طيلة السنوات الماضية.

ففي باكستان على سبيل المثال هناك 3 ملايين لاجئ أفغاني، نصفهم فقط معترف به أمميًا وتقدم له مساعدات، أما النصف الآخر فيقيم بصورة غير شرعية، وهو ما يرهق ميزانية الدولة التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة لا سيما في السنوات الأخيرة، بحسب تقرير لـ”الجزيرة“.

ويقترب عدد اللاجئين الأفغان في إيران من نظيره في باكستان، متجاوزًا 2.5 مليون مواطن، فيما تشير مصادر أخرى إلى أن العدد الحقيقي أكبر من ذلك في ظل عدم تسجيل نسبة كبيرة من اللاجئين في سجلات الأمم المتحدة، يتمركزون في مدن طهران ومشهد وقم وكرمان.

أما على المستوى الهندي فليس هناك أعداد كبيرة للاجئين الأفغان بسبب عدم وجود حدود برية بين البلدين من جانب، ولتشديد الحصار على الحدود للحيلولة دون دخول لاجئين من أي دولة أخرى في ظل ما تعانيه البلاد من أزمات خلال الآونة الأخيرة.

هناك العديد من الدول الأخرى التي تتصاعد مخاوفها من تدفق اللاجئين خلال المرحلة المقبلة رغم عدم وجود حدود مشتركة مع كابول، أبرزها تركيا، التي قررت وزارة دفاعها تعزيز قواتها على الحدود مع إيران بهدف منع العبور غير القانوني للأفغان.

تكثيف الاتصالات الدبلوماسية

خلال الأشهر الأخيرة سارعت حكومات الدول الثلاثة (الصين والهند وباكستان) إلى فتح قنوات اتصال مع طالبان والإسراع من وتيرة الدبلوماسية المشتركة تحسبًا لأي مستجد قد يضع الحركة في خريطة أفغانستان السياسية مستقبلًا، لكن ما حدث فاق التوقعات كافة.

حكومات الدول الثلاثة سرعت في الأشهر الأخيرة من وتيرة اتصالاتها الدبلوماسية مع حركة طالبان تحسبًا لاحتمال أن تصبح قوة سياسية رئيسية في أفغانستان، لكن ما حدث فاق التوقعات، إذ سيطرت على البلاد بشكل كامل وغيّرت المشهد الجيوسياسي في المنطقة.

في 28 من يوليو/تموز الماضي فتحت بكين أذرعها لاستضافة وفد رفيع من قادة طالبان، رغم الخلاف التاريخي بينهما، أكدوا خلال تلك الزيارة أنهم لن يسمحوا باستخدام أفغانستان كقاعدة لشن هجمات تستهدف أمن دول أخرى، كما جاء على لسان المتحدث باسم المكتب السياسي للحركة، محمد نعيم، الذي قال إن وفد طالبان “أكد للصين أن الأراضي الأفغانية لن تُستخدم ضد أمن أي بلد كان”، وفي المقابل تعهد المسؤولون الصينيون بدورهم “بعدم التدخل في الشؤون الأفغانية، إنما على العكس المساعدة في حل المشاكل وإرساء السلام”، بحسب المتحدث.

الزلزال الذي أحدثته طالبان سيكون له توابع على دول الإقليم برمته، في المقدمة منهم قوى الجوار، التي ستجد نفسها مدفوعة للتعامل مع التموضع الجديد للحركة بعيدًا عن أي مواقف سابقة

وفي أواخر يونيو/حزيران وبعيد إعلان أمريكا سحب قواتها من أفغانستان، استقبلت الهند – التي أغلقت الباب لسنوات أمام حركة طالبان – وفدًا من قيادات الحركة في العاصمة نيودلهي، على رأسهم الملا عبد الغني برادار، الرجل الثاني في الحركة، لمحاولة تخفيف التوتر وفتح صفحة جديدة بين الطرفين.

الدبلوماسي القطري مطلق بن ماجد القحطاني، المبعوث الخاص لقطر “لمكافحة الإرهاب والوساطة في حل النزاعات” خلال ندوة افتراضية نظمها المركز العربي في واشنطن، قبل شهرين، تحت عنوان “التطلع إلى السلام في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة وناتو” كشف عن مسؤولين هنود قاموا بزيارة هادئة للتحدث مع طالبان، وذلك لأن الحركة، كما تعتقد نيودلهي، هي عنصر أساسي أو ستكون مكونًا رئيسيًا لمستقبل أفغانستان”.

هناك أسباب جيوسياسية مهمة تدفع الهند لفتح قنوات اتصال دبلوماسي مع طالبان رغم الخلافات بينهما أيديولوجيًا، إذ تتصارع القوى المنافسة للهند إقليميًا (الصين وروسيا وباكستان وإيران) على تعزيز نفوذها داخل الدولة المجاورة، ومن ثم فإنه من منطق برغماتي بحت وجدت نيودلهي نفسها مدفوعة لتبريد الأجواء الساخنة مع الحركة التي باتت اليوم فوق هرم السلطة في أفغانستان.

وعلى الجانب الباكستاني، فدومًا ما كان ينظر لإسلام آباد على أنها أحد أبرز القوى الداعمة لطالبان نكاية في الهند التي كانت تتمتع بعلاقات قوية مع نظام أشرف غني، ورغم التخوفات الباكستانية بشأن انعكاسات تلك التطورات على “طالبان باكستان” فإن الدولة تريد أمنًا واستقرارًا وحلًا سياسيًا عبر التفاوض وليس عبر السلاح في البلد الجار، وليس لديها مشكلة في تعزيز قنوات التواصل مع الحركة الأفغانية.

وكان وفد من طالبان بقيادة نائب رئيس المكتب السياسي للحركة في الدوحة، شير محمد عباس ستانكازي، قد زار كل من موسكو وطهران في سبتمبر/أيلول 2019، التقوا خلال زيارتهم عددًا من مسؤولي البلدين، للاطلاع على مسار المفاوضات مع الأمريكان وسبل تعزيز أواصر الصداقة والتعاون خلال المرحلة القادمة.

وفي الأخير.. فإن الزلزال الذي أحدثته طالبان سيكون له توابع على دول الإقليم برمته، في المقدمة منهم قوى الجوار، التي ستجد نفسها مدفوعة للتعامل مع التموضع الجديد للحركة بعيدًا عن أي مواقف سابقة، الأمر الذي قد تستغله طالبان لتعزيز شرعيتهم السياسية إقليميًا ودوليًا، وامتصاص أي مخاوف من الممكن أن تهدد حكمهم مستقبلًا، لا سيما بعدما رفع العالم الراية البيضاء اعترافًا بالأمر الواقع.