علي الباشا
قد يتساءل البعض عن شكل التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني في هذه المرحلة، وعمليات التطبيع قائمة على قدم وساق فضلاً عن أن سورية ما زالت في حالة حرب ولا تسمح لها الظروف الدولية مقابلة التهديدات الصهيونية المتكررة على أراضيها بالرد الرادع وجزء، ليس بالهيّن، من أراضيها ما زال خارج السيطرة.
إن مرحلة التطبيع وإقامة علاقات بين بعض دول الخليج وإسرائيل سيخدم التوازن السوري مع العدو الإسرائيلي من حيث لا يعلم المرء. فكما أن الحسابات الأمريكية والإسرائيلية وجدت أن إظهار العلاقات إلى العلن في هذه المرحلة يخدم مصالحها بعد أن اشتغلت خلال العقد المنصرم على إنهاك دول الطوق، وفي ظنها ستكون الاستجابة فورية ، والنقيض قد تبدّى في المعضلة اللبنانية الأخيرة.
فإنه في المقابل ، تتهيأ دول المحور إلى صمود من نوع مختلف، فيه تبرّم وسخط أفصحت عنه الجزائر بادئةً. مع سابق اعتقادنا أن هذا النوع من التطبيع هو طارئ مرحلي، لربّما، اقتضته الضرورة النوعية. وهو لن يقلل، بأيّ حال من الأحوال، من جوهر الصراع وفرضية وجوب التوازن الذي يواطئ الواقع ويضمن عدم التحول إلى نمط أحادي يربك المنطقة لعقود.
بمعنى آخر ، نحن أمام تحولات مصيرية واعية بالحد الكافي الذي يمكنه خلق جو إيجابي، لسورية ، رغم السلبية والفوضوية والانتهازية المحيطة.
إن الفصل الأول من مسيرة استعادة المساحة الجغرافية وإظهار الحكمة والقدرة والمهنية المؤسساتية العالية ، ساهم لحظة بلحظة في إعادة ربط سوريّة بالعالم الخارجي رغم كل المعيقات النشطة على الأرض والنظم الخفية المتصلة بالمبادرات التي تحدث على مستوى العالم. كما وأنّ استثمار الفصل الأخير بكفاءة يمكنه تغيير القواعد المحتجبة إلى منفعة إيجابية ملهمة. بصورة أخرى لو نظرنا إلى الاتفاق الإيراني السوري قبل أشهر، الذي كان فحواه تعزيز قدرات الدفاع السورية ؛ ألا أن الهدف منه حفظ التوزان الذي يمنع بكل الأحوال الانجذاب إلى حرب شاملة. وكذلك الوفد الروسي الرفيع الذي وقّع ، من الواضح، اتفاقات تجارية و استثمارية لكنه أوصل رسالة إلى العالم بأن سورية في حالة اتزان رغم البيئة غير النقيّة .. ولكي يتحقق الفصل التالي ، يجب أن تتلاشى حركة التنظيمات المؤثرة على الأرض كلياً، وهو ما حذرت منه تركيا مؤخراً على اعتبار أن الحرب الثانية التي تدعيها ستُعيد المنطقة التي تسرح فيها ، لا محالة، لكنف الدولة السورية وهو ما لمسته بصورة أساسية في مجموعة العزوم الكثيرة على تحرير كامل الأرض السورية وعلى رأسها إدلب.
ومع ذلك فإن عودة مفهوم التوزان الاستراتيجي مع العدو الصهيوني إلى الواجهة ، كان من ضرورات المرحلة في ثمانيات القرن المنصرم ، حين بادر السوفييت إلى تسليح سورية بعتاد موازي للقدرات العسكرية الإسرائيلية، كان ذلك ليس من أجل الحرب بقدر ما كان من أجل حفظ التوازن في منطقة الشرق الأوسط ، وضمان عدم اعتداء دولة على أخرى تتويجاً لاتفاق عام 1974م القاضي بوقف إطلاق النار وفض الاشتباك بين سورية والعدو الصهيوني. هذا الإنجاز كان بمثابة ضوابط استراتيجية لعملية عادلة ومستدامة على مستوى المنطقة.
في هذا المقام، لا يمكن اعتبار التوزان الاستراتيجي مع العدو الصهيوني على مستوى التسليح و الردع فقط، بل على اعتباره مزيج داعم لنموذج يضمن ، ببساطة، التكافؤ النوعي. وهو من الشروط الأساسية التي لن تفرّط بها سورية كي تبدي تفهماً واضحاً لوجهة نظر الجانب الآخر من الدول العربية التي رأت بتوطيد علاقاتها مع إسرائيل عاملاً يساهم في تحقيق التوازن المنشود في المنطقة ويقلل من آثار المخاوف السلبية تجاه إيران.
من ناحية أخرى، إن الحالة الصحيّة التي تمر بها سورية و يعاني منها المواطن السوري بشكل يومي مع سطوة الحصار الجائر، لن تمنع من توفير الظروف الملائمة لكسب المواجهة المقبلة والاقتراب أكثر من تحرير كامل التراب السوري. فما نملكه نحن السوريين(وهنا أشير إلى أعمال اللجنة الدستورية) هو أكثر بكثير مما يملكه العالم مجتمعين، وهذا بحد ذاته توازن يعمق القيم السورية بعيداً عن الإملاءات العالمية. إننا نؤمن بقدراتنا الداخلية والمساحة الإمكانية لتجاوز هذه المرحلة ، والكل يرى أن الحالة الظرفية باتت في مصلحة سورية، والمعركة الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان تستثير خلق مسار جديد بؤرته تركيا التي طوقت نفسها بهذه التوسُّعات بشكل مريع لما كانت عليه قبل عشرة أعوام.
في بعض الأحيان ، يكثر التذمر في مواقع التواصل من الاتحاد الروسي كحليف استراتيجي فلا يمكن تفسير دوره ووجوده في سورية كعمل استغلالي مهيمن، بل هو توازن استراتيجي وأكثر من ذلك هو شيء من فعل استراتيجي يقظ ؛ باعتبار روسيا تلاحظ بعقلانية التغييرات المفتعلة حولها.
ختاماً- التوازن الاستراتيجي الذي تحتاجه سوريّة هو تلك المقاربة بين المصالح الدولية والثوابت الوطنية وسط بيئة تعج بالمتناقضات ومسرانا في ذلك النص الشريف ” سدِّدْ وقارِبْ” والبقية تأتي.