الدكتور حسن مرهج
المتابع للتطورات السورية بمستوياتها السياسية والعسكرية، يُدرك بأن ماهية هذه الحرب ومضامينها، قد تم احتواؤها من قبل الدولة السورية وحلفاؤها، فالمراقب ليوميات الحرب على سوريا يعي وبشكل مُطلق، أن سوريا أُريد لها الخروج الكامل والنهائي من منظور الدولة المقاومة للتوجهات الأمريكية والإسرائيلية، والداعمة لحركات المقاومة، فضلاً عن تحجيم تأثير دمشق في عموم القرارات العربية المتعلقة بمجمل القضايا العربية، فتأثير دمشق القوي في مسار المنطقة، بات مُهددا للولايات المتحدة، لا سيما بأن نظرية الشرق الأوسط “الأمريكي” الجديد، كان ولا يزال ضمن الخطط الأمريكية بعيدة المدى، كما أن هندسة مسار المنطقة لابد أن يكون وفق منظورين الأول واشنطن واسرائيل، والثاني دول تابعة تأتمر عبر واشنطن، لكن الدولة السورية كسرت هذه القاعدة، لتكون الحرب عليها من بوابة رسم توازنات شرق أوسطية، تُقصي الدور السوري.
من هذه المقدمة لن نتعمق كثيرا في يوميات وتفاصيل هذه الحرب، إذ أن انتقال الخطط الأمريكية من الخطة أ إلى الخطة ب وهكذا عبر سلسلة من الخطط، يُعد بمثابة وسم ميّز الحرب على سوريا، فمع انتهاء كل مرحلة، يتم الانتقال إلى المرحلة التي تليها، كل هذا يصب مباشرة في بوتقة إرهاق الدولة السورية، وعند الانتهاء من السياسة وتسونامي الإرهاب الأمريكي الذي صب في الجغرافية السورية، وعند تمكّن الدولة السورية وجيشها وبمساعدة حلفاءها، من الإحاطة بهذا التسونامي، تم الانتقال مباشرة إلى الخطة الاقتصادية وعقوباتها وقوانينها، بيد أن واشنطن لا يُمكنها إطلاقاً الإحاطة بكل العناوين الاقتصادية، خاصة أن الدولة السورية تعايشت مع هذه العقوبات منذ عقود، وابتكرت سياسات داخلية وخارجية تتوافق وواقع هذه العقوبات، وعليه لابد في هذا الإطار من إشراك حلفاء واشنطن الإقليمين بهذه الخطط ليكونوا عوناً لها في إرهاق الدولة السورية، خاصة أن تقاطع المصالح بين واشنطن وأدواتها في المنقطة، يُحقق أهداف مزدوجة، فمن جهة تُحاصر الدولة السورية ويتم إحداث شرخ بين الشعب السوري وحكومته، ومن جهة ثانية تُحقق الغايات بإنهاء سوريا وإخراجها بالكليّة من دورها المؤثر والفاعل إقليمياً والداعم لحركات المقاومة.
بعُجالة، بنود قانون قيصر باتت معروفة للجميع، لكن في عمق هذه البنود، هناك مسار تحاول واشنطن هندسته لبناء رؤية سياسية في سوريا، يُمكن من خلالها الولوج عميقاً إلى داخل المجتمع السوري، حيث أن رهانات واشنطن من خلال هذا القانون كثيرة، بداية تراهن واشنطن وأنقرة بأن قيصر سيساهم في جعل الاقتصاد السوري أكثر فساداً، لأن التعاملات الاقتصادية ستعتمد بشكل أكبر على الشبكات الشخصية والمدعومة من قبل واشنطن وأنقرة، كما أنهما يراهنان أن تؤدي الأوضاع الاقتصادية المتردية إلى موجة نزوح من مناطق الدولة السورية واللجوء إلى لبنان، أو مناطق سيطرة ما يسمى بالمعارضة السورية، أو المناطق الواقعة تحت سيطرة الأكراد، ما يعني وبحسب التصورات الأمريكية، أن هذا الأمر قد فقد يدفع العائلات أو الأفراد إلى البحث عن مصادر رزق في المناطق المذكورة، ما دامت الطريق إلى تركيا وأوروبا مغلقة.
بناء على التوقعات الأمريكية، تبرز نوايا تركيا بطريقة مكملة لبنود قانون قيصر، فكما قلنا لا يُمكن لواشنطن الإحاطة بكل التفاصيل الاقتصادية السورية، ولا بد هنا من الاعتماد على تركيا، إذ يمنح قانون قيصر تركيا مزيداً من أوراق القوّة ضد الدولة السورية وروسيا معاً، هي أوراق قد تُقايض بملف إدلب وشمال سوريا، كما يمنحها فرصة في زيادة منسوب تتريك هذه المناطق التي بدأت باعتماد الليرة التركية في التعاملات اليومية، بما يساعد في ترسيخ الاحتلال التركي والسطو على ثروات المناطق، حيث بدأت تركيا أيضاً بشراء محاصيل القمح والشعير والعدس في مناطق تل أبيض ورأس العين بالليرة التركية، بالإضافة إلى ضمان حصولها على التحويلات الدولارية التي يرسلها السوريون إلى ذويهم، والتي كانت تذهب إلى خزينة الدولة السورية، فضلاً عن قطع المياه عن المدنيين في الشمال السوري، وتخفيض المياه المتدفقة من تركيا عبر نهر الفرات إلى سوريا، الأمر الذي صدرت حياله تحذيرات من كارثة بيئية بعد قيام تركيا بخفض كميات المياه القادمة إلى سوريا.
في جانب أخر، فإن واشنطن أوعزت إلى أداتها الكردية بالسيطرة على بعض المؤسسات الحكومية في شمال سوريا، ومنع الموظفين من الدخول إليها، وتحديداً تلك المؤسسات الحيوية لا سيما الأفران، في خطوة يُدرك الجميع أنها تأتي في سياق قيصر الأمريكي.
ضمن ما سبق، يُتوقع أن يكون لقانون قيصر تأثيرٌ كبير في موازين القوى بالنسبة للفاعلين في المشهد السياسي السوري؛ فالقانون يؤسس لنمط جديد من معادلات القوّة تقوم بدرجة كبيرة على الفعالية الاقتصادية للاعبين، ويُضعف بدرجة كبيرة نمط الصراع العسكري الذي رجحت خلاله كفة كفة الدولة السورية وحلفاؤها، وبالتالي فإن إحدى أهم مفاعيل قانون قيصر على سوريا وحلفاؤها، انعكس لجهة تعميق التحالفات العسكرية والأمنية بين سوريا وإيران، فالاتفاقية العسكرية والأمنية التي وُقعت في دمشق، لا شك بأن ظاهرها عسكري، لكن في المضمون هناك تنسيق عال المستوى بين البلدين في شتى المجالات، وبكل تأكيد فإن روسيا لم تغب إطلاقاً عن تفاصيل هذه الاتفاقية، انطلاقاً من عمق الشراكة الاستراتيجية بين دمشق وموسكو وطهرن، وعليه فإن قيصر الأمريكي واليد التركية، لن يُفلحا في تطويع الدولة السورية، ولن يتمكنا من العبث بالاستقرار السوري، ولحظة كتابة هذا المقال، وردتني معلومات تؤكد بأن روسيا بصدد تعزيز مقومات الاقتصاد السوري عبر دعم الليرة السورية وإيداع الأموال في عهدة مصرف سوريا المركزي، فضلاً عن دراسة العديد من المشاريع الاقتصادية، التي تؤسس لواقع اقتصادي جديد في سوريا.
كاتب فلسطيني