الرئيسية / أخبار / هل يعيد كورونا الوعي للدول المتصارعة؟

هل يعيد كورونا الوعي للدول المتصارعة؟

يشغل فيروس كورونا وتداعياته على كل الأصعدة اهتمام جميع زعماء وقادة العالم، في الوقت الذي تعكف فيه جميع المؤسسات ومراكز الأبحاث الطبية على البحث عن سبل مكافحة الفيروس والوقاية منه.

كذلك يحتل كوفيد-19 “كورونا” المساحة الأكبر إعلاميا وعلى مواقع التواصل الاجتماعي في أنحاء العالم كافة، ولعل من أبرز الأحداث التي جرت على الساحة الدولية بالأمس كانت القمة الاستثنائية عبر دائرة الإنترنت المغلقة لمجموعة العشرين، والتي أكد فيها الزعماء على الأولوية القصوى لوقف تفشي الوباء العالمي وتجاوز تداعياته التي طالت كافة مناحي الحياة، وتشكيل جبهة دولية موحدة لتحقيق هذا الهدف.

كان من بين أهم ما جاء في القمة، التي عقدت عبر جسر فيديو بين الزعماء للمرة الأولى في التاريخ، بسبب تعذر الاجتماع في ظل الظروف الراهنة، المقترحات التي تقدم بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لوضع خطة اقتصادية مشتركة تهدف لضمان استقرار الأسواق العالمية، وإجراء دراسات مشتركة لإيجاد لقاح ضد وباء كوفيد-19، وإعطاء ضوء أخضر يفتح الطريق، ويتجاوز كل الحروب بأشكالها كافة: الاقتصادية والتجارية والعسكرية وغيرها من العقوبات.

كذلك أكد بوتين فيما تبدى”نداءا للضمير العالمي” على أن المهمة الإنسانية الآن تعلو فوق أي اعتبارات سياسية، ما يدعو إلى إلغاء العقوبات واستبدالها بالمساعدات الفورية، خاصة للدول المتضررة من الفيروس. كما حذر الرئيس الروسي من أن التقاعس عن القيام بذلك فورا، سوف يؤدي إلى عواقب وتداعيات خطيرة للغاية على العالم بأسره.

من جانب آخر كان أكثر ما لفت اهتمامي من أنباء في الفترة الأخيرة، ما أصدرته وزراة الدفاع الأمريكية  مؤخرا من رفع لمستوى الأمن في جميع المنشآت العسكرية الأمريكية المنتشرة حول العالم. وأول سؤال يتبادر للذهن بعد قراءة نبأ كهذا “أي مستوى من الأمن يمكن أن ترفعه الولايات المتحدة الأمريكية أو أي دولة أخرى، وأي وحدة من الوحدات، أو سلاح من الأسلحة، أو ذخيرة من الذخائر يمكن أن  تقضي على فيروس لا يمكن رؤيته سوى بمساعدة أقوى المجاهر الإلكترونية”.

لكن بالتدقيق في قرار وزارة الدفاع الأمريكية، تبين أن الهدف هو حماية الضباط والجنود الأمريكيين من خطر انتشار كوفيد-19 في أوساطهم، وذلك بعد اكتشاف حالات في صفوفهم على ما يبدو، ذلك أن فيروس كورونا المستجد لا يميّز بين مواطن عراقي وضابط أمريكي، كما لا يميز بين غني وفقير، أو بين سياسي رفيع المستوى وموظف بسيط. إنه مرض تقف أمامه البشرية بتساو غير مسبوق، تقف أمامه جميع الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، كتحد وجودي يواجهها جميعا . لذلك، وفي هذا الظرف الطارئ الخطير، الذي يمر به العالم، يجب على جميع المحللين السياسيين والصحفيين وصناع القرار والزعماء والقادة وكل من له تأثير في بلورة واتخاذ القرارات على جميع المستويات أن يصبّوا كل جهودهم للمساهمة في إنقاذ البشرية من هذا الوباء الخطير، وأن يشاركوا في كل ما من شأنه التعجيل باكتشاف علاج للمرض، وخلق مبادرات جديدة وسريعة لتحسين العلاقات الدولية، وإعادة النظر في أسباب توترها كافة، ورفض استراتيجية اللجوء إلى القوة العسكرية  والعقوبات الاقتصادية والحصار لتنفيذ الإملاءات وفرض الإرادات على الشعوب، تماما كما أعلن الرئيس بوتين في مقترحاته، فنحن اليوم جميعا في قارب واحد، وأي ثقب في أقصى بقعة منه قد يدفع  بنا جميعا نحو المجهول.

على الجانب الآخر، وعلى عكس ما قامت به وزارة الدفاع الأمريكية، أنشأت وزارة الدفاع الروسية جسرا جويا مع إيطاليا، أرسلت من خلاله كل ما يلزم من أخصائيين ومعدات ومواد طبية لمساعدة الحكومة والشعب الإيطالي على تجاوز محنته العصيبة، ومعالجة الأزمة الصحية المستفحلة.

وعلى الرغم من أن إيطاليا عضو في الاتحاد الأوربي، الذي يفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وعضو في الناتو، الذي ينشر ويوسع قواعده العسكرية بالقرب من الحدود الروسية في أوروبا الشرقية، فإن ذلك لم يحل دون تقديم المساعدة الروسية لإيطاليا المتضررة.

كذلك شرعت روسيا في مساعدة إيران التي تعد إحدى أكبر بؤر تفشي الوباء في آسيا، ومن أكثر البلدان المتضررة من انتشار الفيروس، في ظل الحصار المفروض عليها من الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك تساعد روسيا الكثير من البلدان الأخرى التي تضررت من الفيروس.

أشير هنا أيضا إلى زيارة وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، إلى سوريا، وهي الدولة الوحيدة التي ترابط فيها القوات الروسية خارج أراضيها (بعكس انتشار المنشآت والقوات العسكرية الأمريكية في شتى بقاع الأرض وفقا لبيان وزارة الدفاع الأمريكية).

كانت  أولويات زيارة الوزير الروسي  التأكد من تثبيت وقف إطلاق النار على الأراضي السورية كافة، خاصة بعد الاتفاق الأخير بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان، في موسكو، بشأن إدلب وضواحيها، والذي أُبلغ الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بمضمونه.

وكان من بين أهداف زيارة شويغو إلى سوريا بحث الإجراءات التي تحتاجها سوريا للتغلب على فيروس كورونا، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد نتيجة الصراعات الداخلية، ومحاربة الإرهابيين الدوليين، والحصار، والعقوبات الاقتصادية وغيرها من العقوبات التي فُرضت على سوريا، وتسببت في تدهور اقتصادي كبير، ووضع مأساوي تعاني منه أغلبية الشعب السوري.

وبالطبع تفقّد وزير الدفاع القوات الروسية، التي تقوم بمهامها المحددة في سوريا، بغرض القضاء على الإرهابيين  المدرجين على قوائم الإرهاب الدولية (في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي)، وكذلك الإشراف على سير الأمور في مناطق خفض التصعيد، والدوريات المشتركة في مناطق الشمال السوري، وفقا لاتفاق مجموعة أستانا (روسيا وإيران وتركيا)، ودراسة الوضع الحالي على الأرض، والدور المنوط بالعسكريين الروس في مساعدة السلطات السورية للتصدي لمخاطر انتشار وباء كوفيد-19.

وعلى الرغم من الفارق الواضح، بين تصرف وزارتي الدفاع في كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بأزاء كورونا، فإننا نتمنى تنحية الخلافات جانبا، وأن ننسى انتشار القواعد العسكرية للناتو في مختلف بلدان العالم، ونتمنى أن تقوم واشنطن باتخاذ خطوات لا تقتصر على حماية القوات الأمريكية، وقواعدها المرابطة في الخارج فحسب، بل توسّع إستراتيجيتها في مكافحة فيروس كورونا، وتجند كل إمكانياتها الهائلة والمنتشرة في شتى بقاع الأرض، خاصة في العراق وأفغانستان ودول الخليج وبالقرب من إيران واليمن وليبيا، وكذلك المرابطة في الأردن بالقرب من فلسطين، وتحوّل أساطيلها العسكرية الجوية والبحرية في خدمة مكافحة الفيروس الفتاك، وكذلك في نقل المساعدات والخدمات الطبية في تلك البلدان، التي تعاني من أوضاع مأساوية للغاية، وتمثل بؤرا محتملة لتفشي الوباء على نطاق تصعب السيطرة عليه، ما يمكن أن يحوّل تلك البلاد إلى مقبرة لمئات الآلاف والملايين من البشر، وهي مأساة ستطال الجميع، ولن تتوقف عند حدود تلك الدول، كما رأينا من خريطة انتشار المرض، بدءا من الصين إلى إيران إلى إيطاليا إلى ألمانيا إلى فرنسا إلى بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.

لعل ذلك تحديدا ما عبر عنه بوتين، في قمة العشرين بالأمس، حينما تحدث عن “المهمة الإنسانية” التي تعلو فوق أي اعتبارات سياسية، وتدعو فورا إلى “إلغاء العقوبات واستبدالها بالمساعدات” لتجنب “تداعيات خطيرة للغاية على العالم بأسره”.

إنها لحظة فارقة في التاريخ أمام هذا التحدي الوبائي المرعب الذي تواجهه البشرية، أن يراجع زعماء العالم سياساتهم الشاذة في التنافس على المصالح، وتوسيع الهيمنة، والنفوذ، والتحالفات التي تعيق خلق أجواء دولية إيجابية جديدة، تسمح باستخدام التراكم الفكري والمعرفي للإنسان وإمكاناته وابتكاراته التكنولوجية والرقمية  في خدمة البشرية.

فما قيمة الغنى، أو القوة، حينما ينعم الإسرائيلي بالقوة والاستقرار على مسافة بضعة  كيلومترات (وأحيانا بضعة أمتار) من شعب فلسطيني يعاني ويلات الحصار والفقر والجوع والمرض؟

وما قيمة الازدهار والتطور العمراني والتكنولوجي والانتعاش الاقتصادي المذهل في دول الخليج، بجانب جار يمني يعيش أسوأ مأساة عرفها شعب في التاريخ؟

وما معنى استعراض أساطيل الناتو لقوتها وغطرستها وتفوقها المبهر أمام سواحل ليبيا التي ينخرط غالبية شعبها في حرب أهلية ضروس لا تبقي ولا تذر، يقتل فيها الأخ أخاه كل يوم وكل ساعة؟

أمام الفيروس اللعين نتساوى جميعا، ونقف سواسية أمام خطر يهدد وجود الجنس البشري برمته.

إنها فرصة، يمكن انتهازها لو اتفقت هذه المجموعة من زعماء الدول العظمى والكبرى على إنهاء الخلافات والصراعات الدائرة في البلدان التي ذكرناها آنفا، والتي يمكن أن تنتهي جميعا في ظرف أيام، لو توفرت الإرادة السياسية لدى الجميع لتحقيق ذلك. لا نريد هنا الدخول في تفاصيل، خاصة أن غالبية الشعوب المتضررة تعي ما يجري تماما، لكن اللحظة الفارقة تحتم علينا أن نتخذ قرارات جريئة ننهي بها سنوات وعقود من صراعات تستهلك الموارد والوقت والبشر، ونوجه كل طاقاتنا ومواردنا اليوم قبل الغد في مواجهة الفيروس الخطير.

بذلك تكون البشرية قد استفادت من الأزمة الحالية لانتشار الوباء في التخلص من الوباء الأخطر منه، الذي تسبب في كوارث ومآس لا حصر لها، وراح ضحيته ملايين البشر، وباء الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية.

نقول إن آلية التغلب على هذا الوباء موجودة، والأدوات التي تمكننا من تحقيق كل ما سبق حاضرة، ولكل حالة من حالات الصراع في فلسطين واليمن وسوريا وليبيا، هناك قرارات لمجلس الأمن الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة، وهناك مبعوث شخصي يمثل الأمين العام للأمم المتحدة. ولكن التورط العسكري والمخابراتي الأجنبي المخالف لمبادئ احترام سيادة الدول، هو الذي يعيق تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، ويعرقل قيام هذه المؤسسة الدولية بواجبها في نشر الاستقرار والأمن عالميا.

بعدما تنتهي هذه الأزمة، وننتصر على وباء الكورونا، نتمنى أن يستيقظ ضمير البشرية من جديد، وتعود إلى المجتمع الدولي مفاهيم القيم الأسرية، وعلاقة الجيرة الحسنة، وغيرها من ملامح التضامن والتسامح وقبول الآخر، التي ظهرت لدى الكثير من البشر حول العالم، بعدما فرض عليهم الفيروس البقاء في الحجر الصحي لأيام وأسابيع ليواجه الإنسان أسرته وجيرانه، بل ويواجه نفسه.

لعل الدول أيضا تفعل ذلك، لتتحول البشرية إلى أسرة واحدة تواجه تحديات مشتركة. دعونا في هذا الظرف التاريخي غير المسبوق ننتهز الفرصة ونعزز من مكانة الأمم المتحدة، الآلية الوحيدة التي نشترك فيها جميعا حول العالم، بعد أن شاركنا يوما في صياغة قوانينها التي تضمن حقوق الإنسان، والتي تسعى، من خلال مؤسساتها الإنسانية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والقانونية، نحو التنمية المستدامة لجميع البشر حول العالم، لتحقيق الازدهار والرفاهية والسعادة للبشر.