أصبح الوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب معقدا بشكل خطير، فقد أعلنت وزارة الدفاع التركية عن مقتل العديد من الجنود والمدنيين الأتراك في المحافظة نتيجة قصف قوات النظام السوري، وقال الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، الذي كان في ذلك الوقت في زيارة لكييف، إن من بين القتلى 3 مدنيين و 5 جنود.
وردا على ذلك، قصفت المدفعية التركية مواقع قوات النظام في المنطقة، وقالت وزارة الدفاع الروسية بدورها، إن أنقرة لم تحذر موسكو بشأن نشاط عسكري في إدلب.
أصبح هذا الحادث ذروة أزمة روسية تركية أخرى حول قضية إدلب، حيث تقول أنقرة إن النظام السوري لا يمتثل لوقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد، وأن موسكو غير قادرة على كبح نظام “بشار الأسد”.
ويقول بعض السياسيين الأتراك، إن موجة العنف الجديدة أدت بالفعل إلى فرار 400 ألف لاجئ سوري إلى تركيا، وهذا يجعل السلطات تتفاعل بجدية مع الأحداث التي تجري على الحدود.
وتزعم موسكو، بدورها، أن هناك ضرورة لمواصلة الكفاح ضد “الجماعات الإرهابية” التي استقرت في إدلب، مؤكدة أن هذا لا ينتهك مبادئ اتفاقي أستانا وسوتشي، وأن هذه العمليات ستستمر لأن أنقرة لم تتمكن من الوفاء بالجزء الموكل إليها في مذكرة سوتشي لعام 2018، والتي بموجبها التزمت بفصل الجهاديين عن جماعات المعارضة المعتدلة.
وعلى الرغم من الاختلافات المتزايدة في الأساليب المتبعة في إدلب، فمن السابق للأوان القول إن الشراكة الروسية التركية قد انهارت، والوضع الحالي يعتبر بالأحرى اختبارا لقوتها.
- تركيا ملزمة بالرد
في الواقع، تنظر قوات النظام المدعومة من روسيا إلى عدم وجود رد فعل قاسٍ من أنقرة على أنه “نقطة ضعف”، ويشجعها على المزيد من الأنشطة المعادية لتركيا، ليس فقط في إدلب ولكن في شمال شرق سوريا.
وكان لذلك أثر سلبي على صورة تركيا الخارجية، حيث جرى حصار 3 من أصل 12 مركز مراقبة تركي أقيم حول محيط منطقة خفض التصعيد بإدلب، ولم يتمكن الجيش التركي من منع قوات النظام من التقدم بشكل أعمق في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، ففي المرحلة الحالية من العملية العسكرية في إدلب، وصلت قوات النظام إلى “حاجز نفسي” حرج بالنسبة لأنقرة، وهو الطريق السريع “M4”.
بتعبير أدق، فهم عند مفترق الطرق السريعة “M4” و “M5” بالقرب من مدينة سراقب. إذا نفذت قوات “الأسد” عمليات عسكرية خارج هذه الطرق السريعة – إلى الشمال من “M4” وغرب “M5” – فلن يكون هناك أي فاصل بينها وبين الحدود التركية.
وبالتالي، لن يكون لدى أنقرة أي شيء يمكن الاعتماد عليه لترسيم “إدلب الكبرى” من أجل ضمان إنشاء منطقة أمنية للاجئين السوريين.
من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن طريق “M4” قد أصبح بالفعل خطا فاصلا بين منطقة عملية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا من جهة، وقوات النظام وقوات “سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا من ناحية أخرى.
في الواقع، لم يكن هناك اتفاق مباشر على أن جزءا من إدلب – شمال طريق “M4” وغرب طريق “M5” – يجب أن يبقى تحت الحماية التركية. ومع ذلك، فإن أنقرة بدأت في ضخ استثمارات واسعة في إدلب شملت بناء 10 آلاف منزل للنازحين بالقرب من الحدود التركية داخل الأراضي السورية؛ يشير إلى عدم وجود نية للسماح باستعادة قوات النظام للسيطرة على كامل منطقة خفض التصعيد.
ومن الجدير بالذكر، أن ألمانيا قد قدمت أيضا 25 مليون يورو (27.5 مليون دولار) لدعم هذا المشروع.
لذلك، فبمجرد تعرض مدينة سراقب لتهديد من قبل نظام “الأسد”، ردت تركيا بنشر عسكري واسع النطاق في إدلب. وفي يومين فقط (في 2-3 فبراير) أرسلت أنقرة 5 قوافل عسكرية، و 320 وحدة من العربات والشاحنات المدرعة، ونشرت 5 نقاط تفتيش جديدة، واحدة منها – على ما يبدو – أصيبت بالمدفعية السورية.
- خيارات روسيا
قد تضطر موسكو إلى السير في طريق الدعم الواضح لدمشق، وبالتالي تتصاعد المواجهة مع أنقرة، لمحاولة إجبار القوات التركية على الانسحاب من إدلب، بما في ذلك استخدام الضغط الاقتصادي الذي تم اختباره خلال الأزمة في العلاقات الثنائية في عام 2015- 2016.
سيؤدي هذا بطبيعة الحال إلى تقليص تام للشراكة الروسية التركية في جميع المجالات، وسيؤدي إلى مراجعة لسياسة روسيا في الشرق الأوسط، التي يعد أحد العناصر الرئيسية فيها؛ التعاون مع أنقرة.
وقد يخلق هذا أيضا واقعا جديدا في سوريا، وقد تستفيد الولايات المتحدة من التوترات الروسية التركية في النهاية لدق إسفين بين روسيا وتركيا، وقد توفر مرة أخرى للجانب التركي الفرصة لإجراء عملية جديدية شرق الفرات على سبيل المثال، في اتجاه كوباني أو الرقة أو منبج.
ومن شأن ذلك أن يوسع نطاق سيطرة عملية “نبع السلام” على مناطق جديدة، وقد أوضح موقع “المونيتور” في وقت سابق لماذا يمثل شمال شرق سوريا نقطة هشاشة للهندسة الأمنية بأكملها في دمشق.
إذا فتحت واشنطن المجال الجوي للقوات الجوية التركية، فإن المجموعة المحدودة لقوات النظام في هذه المنطقة جنبا إلى جنب مع الشرطة العسكرية الروسية لن يكون لها فرصة تذكر في كبح تقدم القوات التركية والجيش السوري الحر المدعوم من تركيا.
وأوضحت أنقرة بالفعل، أن الأحداث في إدلب قد تؤثر على التعاون الروسي التركي في شمال شرق سوريا عندما ألغت مشاركتها في الدورية المشتركة القادمة، وأرسلت الولايات المتحدة أيضا إشارة دعم لتركيا، حيث أدانت تصرفات روسيا في سوريا.
الخيار الثاني بالنسبة لموسكو هو اتخاذ موقف متشدد إزاء دمشق؛ لتجبر النظام السوري على التماشي مع مصالح روسيا، حيث يعتبر الحفاظ على التعاون الاستراتيجي بين روسيا وتركيا وتطويره مسألة ذات أولوية بالنسبة للسياسة الخارجية لروسيا.
في هذا الصدد، سيكون من الضروري التوصل إلى اتفاقات جديدة مع أنقرة بشأن إدلب على غرار اتفاقات سوتشي، بما في ذلك فتح طرق “M4 / M5” في إدلب وإقامة دوريات روسية تركية مشتركة على طولها، مماثلة لتلك التي عقدت شرق نهر الفرات.
بشكل عام، لن يكون من المهم بالنسبة لروسيا ما إذا كان جزءا من منطقة خفض التصعيد بإدلب تحت السيطرة الفعلية لتركيا بشكل مؤقت، حتى نهاية عملية “نبع السلام”.
أولا؛ في حالة الانتشار الكامل لتركيا في إدلب، سيتم تقليص تهديد “هيئة تحرير الشام” إلى الحد الأدنى.
ثانيا، إلى أن تصبح إدلب تحت حكم “الأسد”، سيظل النظام السوري معتمدا على الدعم العسكري الروسي. فكلما جرى تعزيز موقف دمشق، زادت رغبتها في العمل بشكل أكثر استقلالية عن موسكو، وبمجرد أن تصبح إدلب تحت سيطرة النظام السوري، سوف يظهر هذا الاستقلال بطريقة أكثر دراماتيكية.
- احتمال تعمد الاستفزاز
من جانبه، يحرص النظام السوري على حل عسكري سريع لقضية إدلب، وبالتالي قد يتعمد إحداث أي استفزاز لمنع صفقة روسية تركية جديدة بشأن إدلب.
بالتالي لا يمكن استبعاد ما يلي: يمكن أن يكون الحادث الأخير الذي أسفر عن مقتل الجنود الأتراك بمثابة استفزاز متعمد من قوات النظام السوري لتدمير العلاقات التركية الروسية.
إن احتمالية حدوث مثل هذا السيناريو، قد أُشير لها أيضا من قبل رئيس المخابرات السابق للأركان العامة التركية، “إسماعيل حقي بيكين”، على قناة “هابر تورك” التلفزيونية.
فقد أشار إلى أن نظام “الأسد” ودول أخرى يمكن أن تقف وراء استفزاز يهدف إلى صدام بين روسيا وتركيا في المنطقة؛ وبالتالي، من المستحيل استبعاد تكرار مثل هذه الاستفزازات.