الرئيسية / أخبار / تفاصيل مثيرة حول عملية اغتيال فتحت الطريق لقتل سليماني

تفاصيل مثيرة حول عملية اغتيال فتحت الطريق لقتل سليماني

عندما تنخرط الدول في حسابات اغتيال الأفراد، فإن الحدود بين من يمكن استهدافه ومن لا يمكن استهدافه يسهل اختراقها. وفي 3 يناير/كانون الثاني، شنت الولايات المتحدة غارة جوية بطائرة بدون طيار استطاعت من خلالها اغتيال اللواء “قاسم سليماني”، قائد “فيلق القدس” الإيراني.

وكان “سليماني” واحدا من أقوى قادة إيران، حيث كان يسيطر على العمليات شبه العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك حملة تفجيرات الطرق وغيرها من الهجمات التي شنتها مليشيات الوكلاء، التي قتلت ما لا يقل عن 600 أمريكي خلال حرب العراق.

ومنذ اتفاقية “لاهاي” عام 1907، جرى حظر قتل أي مسؤول حكومي أجنبي خارج أوقات الحرب بموجب قانون النزاع المسلح. وعندما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للمرة الأولى عن قتل “سليماني”، قال المسؤولون إنه شكل تهديدا “وشيكا” لأرواح الأمريكيين.

وبعد ذلك، في ظل المساءلة والانتقادات، غيرت الإدارة روايتها، مشيرة إلى دور “سليماني” في سلسلة من الهجمات المستمرة. وفي النهاية، تخلى “ترامب” عن محاولة التبرير، قائلا إن العملية جاءت بسبب الماضي الرهيب لـ “سليماني”.

وكان رفض الرئيس الأمريكي لأهمية شرعنة العملية يتجاهل حقيقة خطيرة؛ حيث أظهر أن قرار القتل لا يتعلق بمسائل قانونية محددة أكثر ما يتعلق بمغامرة استراتيجية لـ “ترامب” تستهدف تغيير الشرق الأوسط، وقد فتح ذلك جبهة جديدة مروعة محتملة في استخدام الاغتيال في تلك المواجهة وغيرها.

الطريق لرأس “سليماني”

وبدأ الطريق إلى مقتل “سليماني”، في الواقع، بعملية قتل أخرى، منذ أكثر من عقد، في ليلة من ليالي شتاء فبراير/شباط 2008، في حي سكني راقي بدمشق، السورية.

وكان الهدف هو “عماد مغنية”، وهو مهندس لبناني كثيف اللحية في منتصف الأربعينيات من العمر، وكان يحق له العمل كأستاذ جامعي، لكنه كان مهندس الاستراتيجية العسكرية لـ “حزب الله”، القوة المسلحة التي تسيطر على لبنان وتزودها إيران بالأسلحة والمال.

وتم اتهام “مغنية” بأكثر الهجمات إثارة في ربع القرن الماضي، بما في ذلك التفجيرات التي أودت بحياة ما يقرب من 250 أمريكيا في بيروت، عام 1983، وهجوم انتحاري على السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين عام 1992، راح ضحيته 29 شخصا. وكان “مغنية” معروفا أيضا بنجاحه في تجنب المراقبة.

وفي عام 1985، كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” قد علمت أن “مغنية” في باريس، ولكن عندما قام فريق شبه عسكري فرنسي بالتجول حول فندقه واقتحام نافذة غرفته، وجدوا فقط عائلة أسبانية تتمتع بوجبة خفيفة بعد الظهر وفي أعينهم الخوف والذهول.

وقال “إيهود أولمرت”، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، مؤخرا في مكتبه بتل أبيب: “لقد كان فنانا في إبقاء نفسه بعيدا عن المراقبة”.

وفي عام 2006، بعد حرب شرسة وجيزة مع “حزب الله”، أطلقت (إسرائيل) مهمة لتعقب “مغنية”، قبل أن يتمكن من إعادة تجميع صفوف قواته لمزيد من القتال.

وفي ذلك الوقت، كلّف “أولمرت”، رئيس الموساد “مائير داغان”، بتلك المهمة. وكان الأخير، وهو محارب قديم يبلغ من العمر 60 عاما، يحمل في جسمه شظايا وجروح قديمة من حروب سابقة.

وكان لـ “داغان” مصلحة شخصية في عملية “مغنية”. ففي عام 1982، كان يعمل في جنوب لبنان عندما قام مهاجم انتحاري، قيل إنه مجند من قبل “مغنية”، بتحويل موقع المخابرات العسكرية الإسرائيلية إلى ركام. وحينها قال “داغان”: “في أحد الأيام، سأمسك مغنية، وحين أفعل، إن شاء الله، سأتخلص منه”. وقد توفي “داغان” عام 2016.

وكان أحد أكثر الأسئلة حساسية هو مكان تنفيذ عملية القتل إذا ظهرت الفرصة. وقد يؤدي الاغتيال على أراضي غير مدروسة إلى رد فعل سياسي أو حرب أخرى؛ حيث أن أي هجوم داخل لبنان قد يجبر “حزب الله” على الانتقام.

وفي عام 2007، سادت السعادة داخل الموساد؛ فقد تمكن عميل من الموساد مختبئ بين قادة “حزب الله” من الوصول إلى هاتف “مغنية” الخلوي، ما سمح للمنظمة بتتبع تحركاته.

وعلم الموساد أن “مغنية” كان يتنقل باستمرار بين شقتين بالقرب من دمشق. إحداها تابعة لـ”عشيقته”. في حين استخدم الأخرى، في حي “كفر سوسة” الراقي، لعقد اجتماعات حساسة، وهي الموقع المناسب للاغتيال، أو كما يطلق عليها الموساد “العمليات السلبية”.

وفي حين تسلل عملاء إسرائيليين إلى دمشق للتحضير للمهمة، طلب “داغان” المساعدة من “سي آي إيه”. فعلى عكس (إسرائيل)، كان للولايات المتحدة سفارة في دمشق، وكانت تضم مكتبا سريا لعملاء الـ “سي آي إيه”.

وبناء على طلب “داغان”، استأجرت “سي آي إيه” شقة مطلة على مكان اجتماع “مغنية”، وقام الناشطون الإسرائيليون بتجهيزها بكاميرات صغيرة يتم التحكم فيها عن بُعد، والتي أعادت بث فيديو مباشر إلى مقر الموساد في تل أبيب.

وصاغ الموساد الخطة التي اعتمدت على إخفاء قنبلة في سيارة متوقفة. وصمم الفنيون التابعون للجهاز الإسرائيلي متفجرات تتحول إلى شظايا في منطقة القتل المخروطية بقطر 5 أمتار، وفقا لمسؤول إسرائيلي سابق.

وهرّب عملاء الـ “سي آي إيه” المتفجرات بين الشحنات العادية إلى السفارة. وفي دمشق، أُعطيت المتفجرات للموساد، الذي قام عملاؤه بتثبيتها في حامل الإطارات الاحتياطية لسيارة “باجيرو إس يو في” من “ميتسوبيشي”.

ولكن في اللحظة الأخيرة، دعا الرئيس “جورج دبليو بوش” إلى وقف العملية، بعد أن شعر بالقلق من التحذيرات الصادرة عن ضباط “سي آي إيه” بأن الانفجار قد يقتل مدنيين، وخاصة الطلاب من مدرسة بنات قريبة.

وفي عام 1985، جرى إلقاء اللوم على وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في عملية مماثلة بسيارة مفخخة في بيروت؛ أسفرت عن مقتل أكثر من 80 شخصا وإصابة 200 آخرين، معظمهم من المدنيين. وقد نجا في هذه العملية السيد “محمد حسين فضل الله”، وهو رجل دين شيعي شعبي قريب من “مغنية”، دون أن يصاب بأذى.

وكان “أولمرت” عازما على المضي قدما، وأخذه الموساد إلى قاعدة نائية في الصحراء، وأجرى انفجارا تجريبيا على نسخة طبق الأصل من منطقة القتل، باستخدام شخصيات من الورق المقوى لتمثيل “مغنية” وتلاميذ المدارس الذين يمرون بها. وقد طمأنته النتائج.

وزار “أولمرت” “بوش” في البيت الأبيض للمطالبة باستئناف العملية. وبعد ذلك، رفض أن يقول ما ناقشاه، موضحا أنه غير مرتاح لكشف التفاصيل، حتى لمساعدي “بوش” في المكتب البيضاوي. وقال: “لقد اعتدنا دائما على الخروج إلى حديقة الورود والهمس لبعضنا البعض. لذا فإن إجابة سؤالك ليست حتى في السجلات”.

لكن، وفقا لمسؤول إسرائيلي سابق مشارك في العملية، وافق “بوش” و”أولمرت” على أن يكون “مغنية فقط هو الضحية”. وأرسلت الـ “سي آي إيه” رئيس محطتها في (إسرائيل) إلى مقر الموساد لمراقبة عملية القتل في الوقت الحقيقي، ومنح “بوش” الضوء الأخضر للعملية.

لكن “مغنية” لم يكن وحيدا، فقد كان برفقته رجلان آخران، يعرفهما رجال الاستخبارات، وهما العميد “محمد سليمان”، القائد العسكري السوري الذي قاد بناء مفاعل نووي قبل أن تدمره (إسرائيل) في غارات جوية، والجنرال “قاسم سليماني”.

ويتذكر مسؤول إسرائيلي سابق: “كان يمكن بضغطة زر واحد أن يختفي الـ 3 جميعا. لقد كانت تلك فرصة مُنحت لنا على طبق من ذهب”، لكن “أولمرت” كان في رحلة جوية باتجاه برلين، ما صعّب التواصل معه لأخذ الضوء الأخضر.

ورغم أن عملاء الموساد كان بإمكانهم الاتصال به عبر هاتف يعمل بالأقمار الصناعية للحصول على إذن بقتل الرجلين الآخرين، لم يكن لديهم الكثير من الوقت، فقد كانوا يعلمون أيضا أن قائد محطة “سي آي إيه”، الذي يحضر في مركز العمليات، مفوض للمساعدة في قتل “مغنية” فقط.

لحظة القتل

وفي لحظة، دخل الرجال الـ 3 إلى المبنى، واستقر العملاء في انتظار أن يعودوا إلى الظهور. وقال المسؤول السابق: “لقد دعوا أن يعود كل منهم بشكل منفصل”.

وبعد ما يقرب من ساعة، شاهد ضباط الموساد، الذين يتابعون لقطات الفيديو، “سليماني” و”سليمان” يغادران المبنى السكني ويقودان سيارتهما، وبعد 10 دقائق، ظهر “مغنية” وحيدا، وهنا فجر قائد العملية المتفجرات؛ وعلى الشاشة، تناثرت جثة “مغنية” في منتصف الطريق، وفق ما قاله المسؤول الذي شاهد العملية.

وأضاف: “لقد تناثرت جثته في الهواء، لقد تم قتله على الفور. ولم يصب أي شخص آخر بأذى”.

ووصل الخبر إلى طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي في منتصف الليل، وكانت المقصورة مكتظة بالصحفيين، لذا فقد مال مساعد “أولمرت” العسكري، الجنرال “مئير كليفي أمير”، بهدوء على مقعد “أولمرت” هامسا إليه قائلا: “لقد فقد العالم أحد الإرهابيين الآن”، ورد “أولمرت”: “بارك الله فيكم”.

وعندما هبطت الطائرة، أخذ “أولمرت” الميكروفون الخاص بالطائرة، وقال: “أتمنى لكم جميعا يوما عظيما. فهذا يوم عظيم”.

وبحلول صباح اليوم التالي، كان اغتيال “مغنية” يتصدر عناوين الصحف في الشرق الأوسط. وفي الساعة الـ 8، دخل “داغان”، رئيس الموساد، مكتب رئيس الوزراء مع قائد العملية، حاملا قرصا مع تسجيل فيديو لعملية الاغتيال.

وبعد مشاهدته، شغّل “داغان” أيضا مقطعا لـ “سليماني” و”سليمان” وهما يمشيان بعيدا؛ وهنا تحسر “أولمرت” قائلا لـ “داغان”: “لو وصلت إلي، لكنت قد أمرتك بقتلهم جميعا”.

وفي الأيام التي تلت اغتيال “مغنية”، تجنبت الولايات المتحدة و(إسرائيل) أي إعلان عن المسؤولية.

وقال المسؤول الإسرائيلي السابق، إن الصمت بعد القتل كان لمنع “المضاعفات غير الضرورية”. وأضاف: “يمكنك دائما إرسال طائرة وقصف مكان ما. لكن تريد أن تفعل ذلك بطريقة تقلل من خيار الانتقام، أو اندلاع أعمال القتال على نطاق واسع”.

وبعد أيام قليلة من العملية، ظهر “مايك ماكونيل”، مدير وكالة الأمن القومي آنذاك، على قناة “فوكس نيوز” وسأله المضيف “كريس والاس” عما إذا كانت أمريكا متورطة في مقتل “مغنية”، ورد بالقول: “لا، ربما تكون سوريا. نحن لا نعرف حتى الآن، ونحاول تسوية ذلك”.

وفي مجال الاستخبارات، قد تقدم لك الجنازات وليمة من المعلومات عن السياسة الداخلية للعدو. ويتتبع المحللون من الذي يرسل أكبر عدد من الزهور، ومن يجلس على المقاعد الرئيسية، وما يقوله كبار القادة وما لا يقولونه حول الحاجة إلى التصعيد.

وفي جنازة “مغنية”، في ضواحي بيروت، ألقى “حسن نصر الله”، قائد “حزب الله”، خطابا “ممتعا”، كان مليئا بالتهديدات المعتادة، قائلا: “إذا كان الصهاينة يريدون هذا النوع من الحرب المفتوحة، فليستمع العالم بأسره، سوف تكون هذه الحرب مفتوحة”.

لكن تفاصيل الحدث كانت مطمئنة، فقد ظل المسؤولون السوريون بعيدا، لقد اشتبهوا في أن (إسرائيل) كانت وراء عملية القتل، لكن الرئيس “بشار الأسد” لم يكن يريد أن يواجه ضغوطا سياسية للانتقام.

وفي الاتصالات التي تم اعتراضها، كان القادة السوريون يسمعون أصوات شائعات بأن “مغنية” توفي في نزاع داخلي. وقال مسؤول إسرائيلي سابق: “لقد عرف الأسد بالضبط من فعل ذلك. ولكن، بما أنه لا يريد التورط في أي مواجهة كبيرة، كان يتعين عليه الصمت”.

وقد تم تهريب العميل الذي منح “الموساد” الوصول إلى هاتف “مغنية” من لبنان، وتم إعادة توطينه في بلد آخر. وأخبر “أولمرت” ضباط الموساد أنه في محادثة متابعة مع “بوش”، تحدث الرجلان حول “الفرصة الضائعة”، وقال “بوش”: يا للأسف. أنا حزين للغاية أنهم لم يخرجوا في الوقت نفسه”.