ليس أسوأ من “صفقة القرن” التي يعتزم الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إعلان تفاصيلها في اليومين المُقبلين إلا رد فِعل السلطة الفِلسطينيّة “الباهِت” و”المُخجِل” تُجاهها، رُغم أنّها ورئيسها، تعرف التّفاصيل كاملةً، ولكنّها تتعاطى معها وكأنّها طرف مُحايد، أو غير معني، وليس مُمثِّلًا للشعب الفِلسطيني مِثلما تدّعي.
السيّد نبيل أبو ردينة، المتحدّث باسم هذه السّلطة، “توعّد” باتّخاذ إجراءات، وقال في بيانٍ رسميّ “سنُطالب إسرائيل بتحمّل مسؤوليّتها كسُلطة احتلال”، أمّا حركة “حماس” فهدّدت بإفشال هذه الصّفقة، لكن أيًّا من الطّرفين لم يقُل لنا كيف سيتم التصدّي لها رُغم أنّه لم تبق ساعات قبل إعلانها، ولم نر أيّ تحضيرات، ولو حتّى لمُظاهرة واحدة حتى الآن، وكم من الوعود سمعنا عن سحب الاعتِراف وإلغاء أوسلو وإنهاء التّنسيق الأمنيّ.
ترامب يُريد تقديم “هديّة” لنِتنياهو قبيل إجراء الجولة الثّالثة من الانتخابات البرلمانيّة الإسرائيليّة، وتجنيبه أيَّ مُلاحقة قضائيّة بالتّالي، مُكافأةً له على دوره في اغتيال سليماني، والرئيس محمود عبّاس يستقبل الزّعماء المُحتَفين بالذّكرى 75 لمحرقة “أوشفيتز” في مكتبه في المُقاطعة، وكأنّه شَريكٌ لهم في هذا الاحتِفال، ولا “يُمثِّل” شعبًا هو الضحيّة الأكبر لهذه المحرقة، وكان الأشرف له، وهو “المُهمَّش” و”المنبوذ” أن يُغادر رام الله حتّى لا يكون “شاهد زور”، ولكنّه لم يفعل.
ترامب قال للصّحافيين على متن طائرته أنّه يُحِب “الصّفقات” وصفقة القرن على رأسها، أيّ أنّه يتعامل مع القضيّة الفِلسطينيّة كصفقةٍ تجاريّة، وقد حدّد صِهره جاريد كوشنر قيمة هذه الصّفقة مُقدِّمًا في تموز (يوليو) الماضي أثناء تزعّمه مُؤتمر المنامة، عندما قدّر ثمن فِلسطين بـ50 مليار دولار، وطالب الدّول العربيّة المُشاركة في المُؤتمر بتقاسمها، وجاء التّرحيب باقتِراحه تصفيقًا.
بعد مُباركة ترامب لضم القدس المحتلّة، ومُعظم الضفّة الغربيّة، وفوقهما هضبة الجولان، وإلغاء حق العودة، لم يبقَ هُناك تفاصيل تستحق الإعلان أو الانتظار، ولكن السّؤال هو عن حال الموات الحاليّة التي تسود السّلطة والأراضي الفِلسطينيّة المحتلّة؟
مُعظم الشعوب العربيّة تنتفض وتنزل إلى الشوارع والميادين وتتحدّى الأمن القمعي في دولها إلا الشارع الفِلسطيني للأسف، وكُل الأعذار عن تَواطُؤ السّلطة وأمنها غير مقبولة، فإذا كان هذا الشعب الذي كان القُدوة في التّضحية والفِداء لا يتَحرّك، ولو سِلميًّا، في مُواجهة هذه الكارثة فمتى سيتحرّك؟
رغم حالة الإحباط هذه التي لا نتردّد في التّعبير عنها، والتّحريض على كسرها، فإنّنا على ثقةٍ بأنّ هذا الموقف “اللّامُبالي” لن يستمر، والشعب الفِلسطيني، أو مُعظمه، لن يقبل بهذا الإذلال والهوان سواءً من قبل دولة الاحتلال أو السّلطة وقوّاتها الأمنيّة المُتواطئة، فالاحتقان يتضخّم، والإيمان بالتضحية مُترسِّخٌ في أوساط الشّباب، والانفجار ينتظر عود الثِّقاب، والأمثلة المُشرِّفة كثيرةٌ ولا تحتاج إلى سَردٍ، وقمّة جبل الثّلج آلاف الشّهداء والأسرى والجرحى الذين نفتخر بهم دائمًا.
رِهانُنا دائمًا على فصائل المُقاومة التي خاضَت جوَلات مُواجهة بُطوليّة مع دولة الاحتلال طِوال السّنوات الماضية، وبثّت وتَبُث الرّعب في قُلوب المُحتلِّين، مدنيين كانوا أو عسكريين، ومن غير المُستَبعد أن يأتي الرّد على صفقة القرن بالصّواريخ، أو هكذا يأمَل الكثيرون في الضفّة والقِطاع الصّامِدَين.
مُؤسِف أن تُصبِح المُعادلة في الصّراع العربيّ الإسرائيليّ هي التّهدئة مُقابل التّهدئة، وأن يتحوّل قِطاعٌ عَريضٌ من الشّعب الفِلسطيني إلى “عبيدٍ” للرّاتب، أو صدقات المُحسِنين الهَزيلة المُهينة التي تُبقيهم على قيد الحياة فقط، ولكنّه الزّمن العربيّ الرّديء الذي يقترب من نهايته بإذن الله.
نخشى أن يكون توقيت إعلان صفقة ترامب وصِهره كوشنر وبعد أيّام من جريمة اغتيال الحاجّين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورِفاقهما هو مُقدِّمةٌ، أو غطاء لتوجيه ضربات أخرى إلى محور المُقاومة، تِكرارًا لما حدث عام 1991، عندما جرى عقد مُؤتمر مدريد للسّلام بعد تدمير العِراق، أو وعد بوش الابن بقِيام دولة فِلسطينيّة في نهاية ولايته الأُولى للتّغطية على غزو واحتِلال العِراق، وإكمال ما بدأه والده، لأنّ دولة الاحتلال ستكون رأس حربة أيّ عُدوان جديد، ولهذا يأتي الإعلان عن هذه الصّفقة وما تتضمّنه من “هدايا” للإسرائيليين هي أحد مظاهر الطّمأنة والمُكافأة والرّشوة في حالِ هُطول آلافِ الصّواريخ فوق رؤوسهم.
نعم “صفقة القرن” لن تمُر، لأنّ الشّعب الفِلسطيني لن يقبل بها، ولن يسمح لأيٍّ كان بالمُصادقة عليها، حتى لو صمت مُرغَمًا، لأنّ هذا الصّمت هو دليلُ الرّفض، وليس القُبول، ورِهاننا دائمًا على محور المُقاومة الذي يزداد قوّةً وصلابةً ويُحقِّق انتصارات ويملك قوّة ردع فائضة، وليس على المُطبِّعين العرب المُتواطِئين مع كوشنر وترامب في هذه المُؤامرة والمُتعهّدين بتمويلها من أموال شُعوبهم وأرصدة أجيالهم القادمة، وضخ مِئات المِليارات في الاقتصاد الأمريكيّ دون مُقابل وطنيّ لدعم إدارة ترامب ومشاريعها لتصفية القضيّة الفِلسطينيّة.
اتّفاقات كامب ديفيد لم تنجح في قتل القضيّة الفِلسطينيّة، واتّفاقات أوسلو هي التي جاءت بالصّواريخ التي أرسلت أكثر من ثلاثة ملايين مُستوطن إسرائيلي إلى الملاجئ، وحقّقت توازن رُعب غير مسبوق، و”صفقة القرن” ستُعيد تحشيد العرب والمُسلمين خلف عدالة القضيّة الفِلسطينيّة، إنْ آجِلًا أو عاجِلًا، بعد قتل الإسرائيليين وداعمهم ترامب لكُل فُرَص السّلام.
لعلّ “الخير” الذي قد يأتي من باطن “شر” هذه الصّفقة هو انهِيارُ السّلطة الفِلسطينيّة ومعها اتّفاقات العار في أوسلو، وبِما يُؤدِّي إلى عودة القضيّة الفِلسطينيّة العربيّة والإسلاميّة إلى المُربّع الأوّل، أيّ مُربّع المُقاومة بأشكالِها كافّةً