زياد حافظ
الأحداث المتسارعة في المنطقة تفيد أن الإجراءات الأميركية في صراعها الشامل مع محور المقاومة هي ضمن سلسلة إجراءات تكتيكية تؤكّد مرّة أخرى تراجعها الاستراتيجي تمهيدا لخروجها القسري أو الطوعي من المنطقة. فعملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس لم تغيّر شيئا في المعادلات الاستراتيجية ولا في سلوك القيادة الإيرانية وسائر مكوّنات محور المقاومة بل زادت من تصلّبها وأدّت إلى تغيير قوانين الاشتباك بين المحور والولايات المتحدة كما تحدّد مكوّنات المحور. فالندّية التي أظهرتها الجمهورية في ردّها المدروس عسكريا وسياسيا وعدم ردّ الولايات المتحدة على الرد رغم تصريحات وتهديدات مغايرة لذلك عشية عملية الاغتيال تدلّ بوضوح على أن زمام المبادرة ليس في يد الولايات المتحدة بل في يد محور المقاومة وفي مقدمّته الجمهورية الإسلامية في إيران. وتصريح الرئيس الأميركي بعدم رغبته بالحرب مع إيران هو ردّ على مجمع الصقور في الإدارة الأميركية وحزب الحرب في الولايات المتحدة وأنصاره وعلى قيادات الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية أن الولايات المتحدة لن تخوض حربا من أجل مصالح الآخرين خاصة أن ليس في الأساس أي مصلحة للأميركيين.
والمشكّكون في أن زمام المبادرة بيد محور المقاومة يعتبرون أن تنفيذ عملية الاغتيال دون الانزلاق إلى حرب مفتوحة دليل على قدرة الولايات المتحدة استهداف القيادات المناهضة لها ومن بعيد ودون ردّ يذكر ويقلّلون من الرد الإيراني الصاروخي ويشكّكون في كلام السيد حسن نصر لله حول “العقاب العادل”. ويضيف المشكّكون أن المهمة الفعلية للفريق قاسم سليماني كانت إعادة تقوية أواصر ذلك الحلف الذي لم يستطع أن يردّ بشكل فعّال على الاعتداءات الصهيونية على كل من سورية والعراق وحزب الله. هذه القراءة تدور في ذهن الدوائر الاستخبارية الغربية بشكل عام ويردّدها اتباعهم في مواقعهم الإعلامية.
لا نعتبر تلك القراءة دقيقة بل مغرضة ولكنها موجودة وهي جزء من الحرب النفسية الزكيّة التي يشنّها أعداء محور المقاومة. فلا شك أن سقوط قائد فيلق القدس ونائب رئيس الحشد الشعبي في الجريمة الموصوفة في الكمين في محيط مطار بغداد هو خسارة كبيرة لكل من الجمهورية الإسلامية في إيران والعراق ولمحور المقاومة. لكن الردّ الشعبي الذي ظهر أولا في مأتم الشهيدين والعسكري المباشر ثانيا، لم يكن أقلّ أهمّية من حجم الخسارة بل هو بداية لسلسلة عمليات تهدف إلى إخراج الأميركيين من المنطقة. كما لا يمكن التقليل من إنجازات محور المقاومة سواء في سورية أو في لبنان آخرها عملية افيفيم في الجليل الأعلى التي ارعبت الكيان الصهيوني، ولا من أهمية الهجوم على منشاءات أرامكو أو اسقاط درّة طائرات التجسّس الأميركية دون أي ردّ. ولا بد من التركيز على دلالات القصف الصاروخي الإيراني للقاعدة العسكرية الأميركية في العراق من حيث دقّتها كام أوضحتها وسائل الاعلام الأميركية. استهدف ذلك القصف أكبر قاعدة أميركية في العراق والأبعد من الحدود الإيرانية دون أن تستطيع وسائل الدفاع الأميركية من اسقاط الصواريخ أو التشويش على مسارها الالكتروني كما أوضحته عدد من المواقع الأميركية. وهذا النجاح العسكري له دلالات عسكرية وسياسية تضاف إلى دلالات المناورات البحرية المشتركة مع كل من روسيا والصين والتي يفهمها الخبراء وإن اعتبر المشكّكون أن ذلك القصف لم يكن بالمستوى الاستعراضي الذي تمنّاه البعض فأثار الشماتة والاستهتار عندهم. وبالمناسبة، وحتى الساعة، لم يعلن الأميركيون عن أي خسارة بشرية من جرّاء القصف الصاروخي. وقد يعود ذلك من الناحية الأميركية إلى التعتيم على الخسائر الفعلية رغم تسريبات وسائل اعلام صهيونية وأو إلى تعمّد عدم استهداف القوّات البشرية للدلالة اوّلا على الدقة في التصويب وثانيا على أن القصف مدروس ووفقا لخطّة مرسومة تكون مقدّمة لما هو أكبر وأضخم. كما أنها تدلّ على أن زمام المبادرة بيد الجمهورية الإسلامية وأنها تستطيع هي وضع السقف للرد.
أم الرد الاستراتيجي على اغتيال القائدين فجاء على لسان أمين عام حزب الله والمسؤولين الإيرانيين وهو العمل على خروج الأميركي من المنطقة. العديد من المراقبين اعتبر أن المقصود هو الوجود العسكري ولكن في رأينا ما أهو أهم وأخطر من الوجود العسكري هو الوجود السياسي في المنطقة بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. فبعض الآراء تعتبر أن الجدل حول “طوعية” الخروج هو جدّي بينما آخرون يعتبرون أن المؤشرات تدلّ بوضوح على “قسرية” الخروج. لكن على ما يبدو فإن الخروج العسكري من العراق ومن المنطقة هو أمر لا مفرّ (رغم تصريحات وزير الدفاع ووزير الخارجية الأميركي) منه بُرّر جزء منه خلال المؤتمر الصحفي للرئيس الأميركي عندما قلّل من أهمية النفط في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة ودعوة الحلف الأطلسي للتدخّل في المنطقة. وهناك من يشكّك في جدّية الرئيس الأميركي ويركّز على تصريحاته حول بقاء القوّات الأميركي للاحتفاظ بالنفط. فإذا كان ذلك صحيحا لماذا يردّد بكل مناسبة عدم أهمية النفط في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة التي أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم وتصدّره بدلا من استيراده؟ وهل الاحتفاظ بحقول النفط في كل من سورية والعراق يبرّر زهق أرواح الجنود الأميركيين إذا ما عُرض الأمر هكذا على الشعب الأميركي؟ الإجابة على السؤال الأخير واضحة وفقا لاستطلاعات الرأي العام الأميركي وحتى لقيادات الكونغرس الأميركي وجميعها ترفض حربا جديدة في المنطقة.
فالوجود الأميركي في المنطقة هو فقط لخدمة الكيان الصهيوني وليس حتى لمصلحة الأمن القومي الأميركي أو لحلفائه العرب كما يعتقد البعض. كان ذلك خطاب ترامب السياسي خلال الحملة الانتخابية الرئاسية وها هو يجدّده. هذا دليل على مزاج التراجع الذي ينعكس في ميزان القوّة الفعلي في المنطقة بغض النظر عن الوقائع التي تعكس الصراع الداخلي الأميركي بين الرئيس والدولة العميقة. فالولايات المتحدة تظهر إعلاميا بموقع متقدم مستندة إلى إجراءات لها الطابع الاستعراضي المؤثّر ولكن الذي لا يعدّل في موازين القوّة. ومن ضمن هذه الإجراءات التكتيكية أقدام الولايات المتحدة على اغتيال الفريق قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. هذا الإجراء شكّل منعطفا لم يكن بالحسبان لمسار المواجهة بين محور المقاومة والولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحلفائهما من الدول العربية.
لم يكن بالحسبان على أساس أن الخطوة هي من الحماقة التي يصعب وضعها في الميزان في التصوّرات المحتملة التي تفترض العقلانية. فإذا تلك الفرضية لم تعد قائمة فكافة الاحتمالات تصبح قائمة وبالتالي يصعب استشراف المستقبل. والحماقة ظهرت بوضوح وكشفت جهل الأميركيين في قراءة مزاج المنطقة. استثمر الأميركيون الكثير من الجهد والأموال لتأليب المزاج الشعبي في كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وفي العراق وحتى في لبنان إضافة إلى الضغوط الاقتصادية القصوى التي فرضتها على إيران. وتسرّع وزير الخارجية الأميركية بالتبجّح بأن عملية الاغتيال ستستقبل بفرح كبير (استعمل المصطلح اللاهوتي للفرح) عند كل من الشعب الإيراني والعراقي يدلّ بوضوح على مدى جهل المسؤول الأميركي للمزاج الشعبي. فكانت مراسم التشييع التي لم يشهدها العالم في أي مكان تظهر تماسك الشعبين وتلغي مفعول المجهود الأميركي لدفع الشعبين إلى الانتفاضة أو الثورة ضد النظام في إيران والحكومة في العراق. فبعملية واحدة استطاعت الولايات المتحدة تعبئة الشعبين ضدّها وربما هنا تكمن “العبقرية”!
لكن بالمقابل الخطوة الحمقاء يمكن احتواء تداعياتها وتوظيفها وتحويلها إلى فرصة من قبل العقول الباردة عند كافة أطراف محور المقاومة والتي تفتح المجال لتصوّرات متعدّدة. فالتداعيات لتلك العملية فرضت معطيات وقراءة جديدة لمسار الصراع الذي لن يكون لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها. فأوّل المعطيات هي أن ساحة المواجهة قد تتوجّه من سورية واليمن إلى العراق مجدّدا حيث الحرب العراقية الأميركية قد تكون عنوان المرحلة المقبلة. وهذه الحرب أصبحت بطبيعة موازين القوّة التي رُسمت خلال السنوات العشرة الماضية من الحروب الخلفية التي هدفها تأخير الانسحاب من وجهة النظر الأميركية بدلا من تحقيق أهداف استراتيجية أو حتى تخفيف الخسائر. ولا يمكن أن يغيب عن البال أن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة في هذه المرحلة هو ضمان الأمن الصهيوني سواء بوسائل المواجهة العسكرية أو التسويات السياسية الشاملة التي شروطها ما زالت غير متوفرة والتي لن تتوفر بغض النظر عن المدى سواء كان قريبا أو بعيدا.
ثانيا، المعطيات التي كانت سائدة سنة 2003 على الصعيد الدولي والإقليمي لم تعد قائمة. فروسيا استعادت مكانتها الدولية وأصبحت موجودة بثقل وازن في المشرق العربي. كذلك الأمر بالنسبة للصين التي عبّرت عن وجودها السياسي عبر الصفقات الاقتصادية مع العراق بما يوازي 500 مليار دولار لبناء البنى التحتية وعبر المشاركة في المناورات البحرية مع روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران في بحر العرب. كما أن القدرات العسكرية لمكوّنات محور المقاومة تعزّزت بشكل تجعل المحور برمّته عاملا استراتيجيا في المعادلة الإقليمية. والقوّة هنا في المحور بأكمله وليس في قوّة القدرات الذاتية لمكوّنات المحور. فالمحور يعطى قيمة مضافة لكل المكوّنات المنفردة. فمن جهة أصبح للجمهورية الإسلامية في إيران سنة 2020 دور إقليمي تمثّل بمشاركتها في المناورات البحرية مع كل من روسيا والصين والتي استبقت انعقاد مؤتمر لأمن الخليج في منتصف 2020 تحت رعاية الأمم المتحدة. ومن جهة أخرى يعيش الكيان الصهيوني أزمة حادة بنيوية في رأينا قد تطيح به بسبب انسداد الآفاق لوجوده رغم ما يعلنه من “إنجازات” في التطبيع مع عدد من الدول العربية. وأخيرا، تدهور العلاقات بين تركيا والحلف الأطلسي بشكل عام والولايات المتحدة جعلت تركيا أكثر “إصغاءً” للمحور الروسي الإيراني الذي قد نرى ترجمته في عودة مدينة إدلب إلى كنف الدولة السورية وفيما بعد في خروج تركيا من شمال سورية.
ثالثا، وهو المتغير الجديد، نقل مسرح المواجهة مجدّدا إلى العراق لتنذر بالحرب العراقية الأميركية الثالثة خاصة بعد الرفض الأميركي لقرار الحكومة العراقية بعد تمديد اتفاق “التدريب والاستشارة” الذي بموجبه بقيت القوّات الأميركية. والرد الذي صدر عن الخارجية الأميركية كان مستفزّا لسيادة العراق حيث اعتبرت الولايات المتحدة أنها تتواجد كما تشاء في أي مكان “لمحاربة الإرهاب”. لذلك اًصبح الصدام حتميا وستقوم بهذه الحرب قوّات المقاومة الشعبية في العراق لاستنزاف القوّات الأميركية في حرب غير متماثلة تفتقد الولايات المتحدة الخبرة في خوضها فتصبح الهزيمة واقعة، خاصة وأن القيادات السياسية والعسكرية الأميركية دون المستوى المطلوب مقارنة مع مستوى قيادات محور المقاومة. فإذا كانت الحرب الأولى بحجة إخراج العراق من الكويت والثانية لاحتلال العراق تحت ذرائع كاذبة، فإن الثالثة هي معركة التحرير الفعلية للعراق عبر إخراج الوجود العسكري والسياسي الأميركي. لا نملك حيثيات المواجهة العسكرية فلها أهلها ولكن نؤكد طبيعة عدم تماثلها ودورها الاستنزافي. أما المواجهة السياسية فهي الأخطر إن لم يتم تحصين الوضع الداخلي العراقي. هذا يعني ضرورة مراجعة كافة الأطراف المعنية، داخليا، وإقليميا، وعربيا لسياسات استثمرت في الاحتلال وافرازاته وفي التقسيم الطائفي وتهميش عروبة العراق. المراجعة تعني إنهاء سياسة الاقصاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هي تعني أيضا مساءلة ومحاسبة المسؤولين العراقيين في عجزهم عن تقديم الخدمات الأساسية لكافة مكوّنات المجتمع العراقي. الفساد هو الذي ينخر جسد العراق وروحه ولا بد من عملية تطهير تعيد الثقة بين المواطن والحاكم. أعداء العراق هم أعداء الأمة وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني ومن يحميه دوليا وعربيا ويعمل داخليا على أضعاف محور المقاومة. والعدو استطاع عبر الفتنة الداخلية تحييد العراق عن المواجهة مع الكيان الصهيوني. فطالما الكيان موجود لا تنمية ولا تقدّم في العراق. مواجهة الكيان من ضرورات التنمية في العراق وفي جميع البلدان العربية.
تعثّر المشروع الأميركي للمنطقة في العراق بسبب مقاومته وسيكتمل عقد النصر لمحور المقاومة إذا ما كان العراق موحّدا. المعركة ليست معركة نفوذ بين المتصارعين الإقليميين والدوليين. المعركة هي معركة وحدة العراق. وفي رأينا، هذه الوحدة لن تستقيم في تغييب عروبته خاصة بعد أن تبيّن أن الخطاب الطائفي والفئوي البديل أوصل العراق إلى طريق مسدود وأنه ضعيف أمام أطماع الامبريالية والصهيونية. وإذا كان هناك من خلاصة للأحداث الأخيرة فإن العراق، ومعه سورية ولبنان، واليمن يمثلون العمق الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية في إيران. فقوة العراق من قوّة كل دول محور المقاومة بما فيها الجمهورية الإسلامية في إيران وليس العكس. فعروبة بلاد الرافدين وبلاد الشام تقوّي المحور وتحصّن إيران كما نعتقد. بالمقابل، فإن العراق الضعيف يضعف المحور برمّته. وفي عصرنا، ليس من الممكن لأي قوّة في العالم السيطرة على شعب يريد الحياة الحرّة ويقاوم من أجلها. وفي عصر التشبيك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي فلا بد من انهاء ثقافة اللعبة الصفرية بين مكوّنات المحور. فإما الجميع يصعد وإما الجميع يسقط. هذا هو التحدّي الفعلي.