فؤاد البطاينة
سبعة عقود من زمن الدولة الأردنية مرت والعمل جار فيها على إحداث تغيير في طبيعة الأردنيين نحو فك اراتباطاتهم بمفاهيمهم وقيمهم وهويتهم. تراجعت بالنتيجة مفاهيم الوطن والقومية والصالح العام، وغابت القضية الفلسطينية كقضيتهم الأساسية. وغير هذا الكلام هو شعر جاهلي. وغابت الجوامع الروحية والوطنية التي كانت تجمع الناس، وتفككت المنظومة الاجتماعية الى افراد رعايا في دولة يحملون فيها اليوم هويتين مزيفتين الأولى هوية الدولة التي لا تحمل هوية شعبها،وشعبها لا يحمل هويتها ولا مسئوليتها، يمشي معها الى حيث تسير طلبا للرزق أو المكاسب لا يلوي على شيء سوى الحياة والبقاء بالوسائل المتاحة. والثانية هوية العشيرة التي لم تعد تحمل هوية ابنائها بينما ابناؤها يتمسكون باسمها للاستخدام الدفاعي الواهم ولا تسعفهم، إنها تضمحل بكفرها وزيفها وبما حُقنت به من سموم.
وحين حققت السياسة الاستعمارية وطرها وتركت جبهة داخلية مفككة وإنسانا مهزوما غير متصالح مع نفسه ومع أخيه ووصل المشروع الصهيوني لمرحلة متقدمة، دخلت الصهيونية عندها مباشرة في حرب اقتصادية معيشية اذلالية ضد الشعب برضوخ من النظام الذي شن حملة ادارية موازية استهدفت مكاسب وامتيازات كانت قد منحت لأصحابها منحاً لا على سبيل الأصالة والقانون، بل على سبيل الاستخدام الواطي دست فيه ألغام اللاوطنية وسموم النفعية والجهوية والإقليمية. وكانت النتيجة من نوع الفعل إذ دخل الأردنيون اليوم في مواجهة مع الدولة والنظام وهم مجردين مما يجمعهم.
تمثلت هذه المواجهه بالحراكات. ونتكلم عن الحراك الحالي الذي مرت عليه سنه. وقد كان لانعزال الأحزاب والنقابات عن هذا الحراك واقتصار المشاركات على أشخاص معدودين منها اثر في افقاده الزخم الجماهيري والبعدين السياسي والإعلامي. وهذا يعكس ضعف التماسك بين الأطر السياسية لتلك الأحزاب ومضامينها. بينما النقابات فتحكمها ما يحكم البرجوزازية الصغيرة من قوة الشد في طرفي الحبل، وافتقدناها. وسيطر على ساحة الحراك أشخاص ومجموعات من الأقل وعيا وإدراكا لطبيعة الأزمة الحقيقية التي يواجهها الاردن وشعبه، وأخذت عينات من العامة دور المعبئ للفراغ السياسي في الشارع وقيادته دون أن تمتلك التصور السياسي وألياته وصارت تخطب وتتحدث وتهتف من خارج النص، فالحرك الاردني ولد في يُتم سياسي ولم يجد للأن أباً مؤهلا ً يتبناه.
وبدأ الحراك القاصر يفتك بنفسه وبالفكرة، إذ سادت في خطابه الروح الفردية والإحتكارية والتخبط بالشعارات وضبابية الهدف والقصور السياسي والمبارزة أحيانا في رفع سقوف ليست جادة ولا هي في مصلحة الحراك. ورغم محاولات المسيسين والمثقفين فيه لضبط وجهة الحراكيين نحو الخط السياسي إلا أن امكانيات الحراكيين الثقافية والفكرية وحالة الأنا حالت دون ذلك وبقي إطار الحراك وفكرته وخطابه الأساسي يقوم على المناداة بمعاجة الأعراض ووسائل التدمير المستخدمة كالفساد والبطالة وتوفير الوظائف من خارج مفهوم العدالة الإجتماعية، بعيدا عن البعد السياسي وفكرة التغيير السياسي وعن الأسباب الحقيقية وراء تدهور الأوضاع والمآلات التي تتجه اليها، والأهم بعيدا عن القضية الفلسطينية التي يشكل ابتعادنا عنها السبب الرئيسي بما تعانيه الدولة وشعبها وبما ينتظرها. وهذا كله ليس من اهتمامات المكون الفلسطيني ولا من أهتمامات أي واع من أي مكون اردني ولا يشكل حراكا سياسيا وطنيا
من هنا بقي الحراك محدود المكان والزمان والمشاركة كما ونوعا، ومتناقصاً، وفشل في جذب الجمهور اليه من أي مكون من المكونين الاساسيين في الاردن، وفشل في جذب النخب السياسية الوطنيه ذات الثقل الشعبي التي كسبت الرهان على فشله ما دام لا يتفق على مكمن الجرح وتحديد البوصله الصحيحة للخطاب والهدف.
وأمام تراجعه السريع المهدد بوقفه مع غياب الهويتين المشار اليهما وغياب تأثير أصحاب الرأي والتأثير السياسي عنه، أخذ هذا الحراك يبحث عن هوية يلتم عليها الأردنيون على طريقة الفزعة. ومع أن المفترض أن تكون الهوية الوطنية الجامعه التي افتقدوها هي التي يبحثون عنها ويكون التوجه لمكونات الشعب ونخبه وساسته ومفكريه، إلا أن عمق الثقافة اللاوطنية التي اكتسبوها نتيجة سياسة الدولة، وعدم وعيهم على الواقع وعمق الهزيمة، قد سهل الأمر على جهات مشبوهة لتوجيه البعض لنشر خطاب الجهل والإقليمية ودسه في كل مناسبه كوسيلة يلتم عليها الشرق اردنيون. ولتصبح وسيلة فتنه وسدا منيعا أمام قيام حراك شعبي، وسببا في تهيئة البيئة الداخلية لتمرير مرامات العدو.
ومع الأسف هناك أيضا أصوات اردنية فلسطينية الأصول خارجه عن الصف الوطني الفلسطيني الاردني يعرفها احرار الاردن وفلسطين، ترأس مراكز لمؤسسات مرتبطة بتمويل أجنبي غربي طلت برأسها في هذا الظرف تنادي بالتوطين السياسي للشعب الفلسطيني بدلا من المحافظة على هويته الوطنية السياسية. وهذه الأصوات تلتقي مع خطاب الفتنة بين الشعب الواحد وتتناغم مع الخطاب والهدف الصهيوني الغبي
على الأردنيين أن يعلموا بأن ما استجد عليهم من تغييرات وضغوطات يتلخص سببها ويتمثل في أن المشروع الصهيوني في فلسطين قد وصلهم. وهذه هي مشكلتهم وهذا هو التحدي. وأن معاناتهم بدأت على هذه الخلفية وستسمر عليها، وبأنهم اليوم في الحقيقة في مواجهة هذا المشروع في عقر دارهم وهم في أضعف حال من فقدان الهوية الوطنية وانحلال الجبهة الداخلية وسوء حالة الدولة وعزوف نظامها عنهم. وعليهم أن يقرأوا الخارطة السكانية الوطنية في الاردن جيدا، فليس في الاردن هنود ولا بلجيك ولا مكون أجنبي، الاردن بكل مكوناته اليوم أمام استهداف واحد لمصير واحد بنفس المشروع. الخطر الأكبر عليهم هو الخطأ الأكبر في أن لا يكونوا مكونا واحدا في مواجهته ومواجهة كل متلاعب بوحدة الشعبين على هذه الأرض وفي كل أرض بوجه المشروع الصهيوني، وأن يعملوا على سبيل الأولية على تطوير ونشر خطاب شعبي واحد بعيدا عن مظاهر الأزمة ووسائلها. ولا يمكن أن يكون حراك أردني إلا على أسس مشتركة. وإلا فتبا لكذبكم وأنتم تنتقدون قممكم وحكامكم على عدم المصالحة والتوحد إزاء العدو بينما تمارسون سلوكهم على بعضكم تبرعا لا بأجر مثلهم
وعلى الاردنيين أن يدركوا حقيقة لا نناقش سلامتها وصحتها بل نتذكرها كواقع. وهي أن الفلسطينيين الاردنيين لم يأتوا للأردن راجلين بل محمولين على ارضهم الفلسطينية التي أسمينا الضفة الغربية. وأن النظام الأردني فشل في الحفاظ عليها وخسرها للصهيونية وقام بفك الارتباط معها وهي محتلة وقبل أن يستعيدها ويعيدها لأصحابها. المكون الفلسطيني الاردني اليوم جله ولد وعاش في الأردن والتصاقه الطبيعي بالاردن لم ينتقص ذرة واحدة من هويته الفلسطينية، ولم يكن يوما طامحا لحقوق سياسية بديلة عن حقوقه السياسية على تراب فلسطين. والمسأله ليست أكثر من دسيسة صهيونية يَبني عليها البسطاء. لا مُعين اليوم للشعب الأردني في مواجهة المشروع الصهيوني الهاجم على الاردن إلا الشعب الفلسطيني وبدونه تنقلب الحسابات والنتائج على الجميع
نحن الأردنيين بمكونينا الأساسيين، علاقتنا الإدارية وطبيعتها ومستقبلها كرة هلامية يشكلها ويتقاذفها العدو طبقا لمراحل المشروع الصهيوني وحاجات النظام ولا بد من خارطة طريق واضحة لهذه العلاقة ومتوازنة تحافظ على الهوية الفلسطينية والقضية طالما الإحتلال قائما. وهذه العلاقة مسئولية وطنية مشتركة يرسم حروفها أحرار ووطنيو المكونين من خلال حورات وطنية مسئولة، لا نتركها كرة يتقاذفونها حسب الحاجه وحجر عثرة أمام وحدتنا وأمننا وعملنا المشترك.، ولكن الأولوية والوقت والظرف اليوم لا يحتمل سوى توحدنا في مواجهة المشروع الصهيوني في الأردن. إنها باتت مسئوليتنا كشعب، لأن الشعب العربي اليوم ونحن منه يواجه الهجمة الصهيونية بلا عسكر محاربين، ولا حكام وطنيين. لقد استحال العسكري العربي بعد فشله بمهمته المقدسة الى لص يمتهن السطو المسلح على الحكم في العواصم لينقل فشله للسياسة ويكتم أنفاس الديمقراطية ويأخذ على عاتقه إكمال مهمة العدو في التدمير الذاتي وفي قهر وإذلال شعوبنا.
والمحصلة، لا تغيير بدون حراك، ولا حراك بدون جمهور، و لا جمهور بدون خطاب سياسي واع وموحد وجامع للمكونيين الرئيسيين. الاردن من منظور امريكا اليوم دولة انتقالية بشعب لا وزن ولا هوية له، وهذا واقع تراكمي قاد مسيرته النظام ويقع اليوم في شره. وعلى هذا الأساس يدخل المشروع الصهيوني الى الاردن بأريحية. وإن المواجهة الشعبية السلمية الواعية وحدها المعوَّل عليها ونحن نفتقد أرضيتها. وهذه مهمة من فتح الله على عقولهم وقلوبهم. فالاصلاح لا يأتي الا من الصالحين.
هذا هو الوقت الذي تنقلب فيه الحركة الوطنية الموزعة بين التدجين والتنظير والأيدولوجيات على واقعها المزمن الأشبه بالنوادي والصالونات ومتعهدي الندوات والمحاضرات والبيانات في المناسبات. كلا لبقاء أي إطار سياسي على حاله في هذا المفصل الوجودي، كلا للرمادية فلا مجال بعد إلا لوضع الأصبع على الجرح مباشرة وتفعيل القدرة الجماهيرية التي وحدها تصنع التغيير. ولا بديل عن أن تفهم أمريكا ويفهم النظام أن عنصر الشعب في الدولة موجود وفاعل.
كاتب وباحث عربي