د. لبنى شطاب
عاد الجزائريون إلى الساحة السياسية واقعيا و افتراضيا بعد اعتزالها لسنوات طويلة عبر انتفاضة سلمية فجرها رفض ترشح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة للإنتخابات الرئاسية، و استمر حراك الشارع لأسابيع و لايزال، ارتفع خلالها سقف مطالبه ولكن هدفه الرئيسي يبقى التغيير.
لقد كشف لنا الحراك و تفاعلاته المختلفة، عن عدد من التحديات التي ستواجه الجزائر في مراحلها المقبلة، حيث يمكن تسجيل الملاحظات الأولية التالية التي يمكن البناء عليها في استشراف بعض هذه التحديات:
أولا : جدل الهوية يعود من جديد:
إن الحديث حول الهوية في الجزائر لا ينتهي أبدا و تزداد شدته بشكل واضح أوقات الأزمات، و نظرا لحساسية الموضوع فإنه يعتبر أحد الطابوهات التي يصعب تناولها. فالبعض ينفي تماما وجود ” مسألة الهوية”، و يعتبر طرحها في حد ذاته مثيرا للنعرات القومية و لجدال يضر و لا ينفع، لذلك سيكون تجنبها هو الأفضل. أما البعض الآخر فيرى الهروب إلى الأمام ليس حلا، و أن المسألة ملحة و لا يمكن تجاهلها.
لقد كشف الحراك الشعبي في بعض مظاهره عن هذه القضية، و فجر نقاشات مجتمعية عميقة عبر صفحات الفيس بوك و غيرها من الوسائط.
من الافكار التي طرحت فكرة الإنتقال إلى جمهورية ثانية ، و فهم لدى الكثيرين أن المراد منها هو بناء دولة علمانية لائكية، و هي مفاهيم سيئة السمعة لدى الكثير من الجزائريين، حيث تعني لهم الإنسلاخ عن الهوية العربية الإسلامية، و يعتقد أن من يقف وراءها هو التيار الفرنكفوني ، وقد تم تصنيف الداعين إليها على أساس قومي أيضا.
في مقابل ذلك طرحت فكرة التمسك بدولة مبنية على مبادئ نوفمبرية، تلك المبادئ التي جمعت الجزائريين في ثورتهم، و كانت بوصلتهم التي حمت وحدة صفهم رغم اختلافاتهم في مواجهة استعمار مارس أبشع أشكال الفرقة و التقسيم ولكنه لم ينجح في ذلك، و كللت الثورة باستقلال الجزائر واحدة موحدة.
إن مفهوم الهوية في الجزائر يثير العديد من الأسئلة من قبيل : هل الهوية في الجزائر قائمة على التنوع و التعدد ؟ أم أنها هوية الأغلبية العددية؟ أم هوية الأقلية المؤثرة ؟ أم أنها هوية السكان الأصليين لشمال أفريقيا دون غيرهم؟ وهل الهوية الإسلامية هي البوتقة التي تذوب فيها كافة الهويات الثقافية و الإجتماعية كما يعتقد؟ أم أنها ليست كذلك، فالإنتماء الديني لا يذيب أبدا الإنتماءات القومية الفرعية؟
يبدو أن بروز مسألة الدين و اللغة و الهوية قد تجاوزت كونها مسألة تاريخية ثقافية ، بل ستكون من أهم الإشكاليات و التحديات السياسية المقبلة، فالصراع البارد في هذه المرحلة التاريخية الصعبة بين مختلف القوى الليبرالية و اليسارية والقومية و غيرها، يوحي بأن الهوية الجزائرية الجامعة ستتآكل لسمح الله، ليس لأنها في جوهرها كذلك، ولكن لأنها أصبحت موضوعا للصراع عندما تم إصباغها إيديولوجيا ، مما قد يعني أن أدلجة الهوية الجزائرية قد يعني أيضا أدلجة الدولة الجزائرية وهنا مكمن الخطر.
إن أخطر الصراعات في المرحلة االمقبلة هو الصراع على الدولة من خلال محاولات صياغتها وفقا لرؤى و توجهات سياسوية إيديولوجية تتصارع على الهوية، و التي يتم الحشد و التعبئة لها على أساس الإنتماء القومي لا سيما أثناء الإنتخابات الرئاسية أو البرلمانية المقبلة ، وهذا الصراع إن لم يهدأ و يتعقل سيؤدي إلى تشظي الحد الأدنى من الترابط الوطني.
ثانيا : موقع المؤسسة العسكرية مستقبلا
على الرغم من الدور الوطني الذي لعبته المؤسسة العسكرية و لا تزال خلال هذه الأزمة التي تمر بها الجزائر، و التطمينات التي تضمنتها بياناتها طوال الحراك، و وعدها بحمايته وتلبية مطالبه و مرافقة عملية التغيير، إلا أن دورها في المرحلة المقبلة بلا شك سيكون مطروحا بقوة، فهل ستحتفظ المؤسسة العسكرية بنفس موقعها أم ستعيد النظر فيه بعد تحقيق الإستقرار السياسي المنشود ؟ وهل سنشهد تغييرا نوعيا في طبيعة العلاقة ما بين العسكري و المدني في النظام السياسي الجديد؟ خصوصا و أنها علاقة إشكالية منذ تأسيس الدولة الجزائرية بعد الاستقلال إلى يومنا هذا.
بلا شك ستتضح معالم حدود الدور المستقبلي للمؤسسة العسكرية عندما يصاغ دستور جديد للبلاد، و لدينا الكثير من التجارب التي نجحت في ضبط العلاقة بين المؤسسة العسكرية و باقي المؤسسات الدستورية بعد عمليات تغيير و انتقال طالت هذه الدول، و يمكن دراستها و الإستفادة منها ، ويمكن الإشارة هنا إلى التجربة التركية أو التجربة الأندونيسية على سبيل المثال.
يبقى المؤشر المطمئن باعتقادنا هو تمسك الجيش بالدستور رغم مساوئه، و هي نقطة قد يختلف غيرنا معنا عليها، لأن الدستور الحالي لا يحل الأزمة القائمة في بعض أبعادها، و هو أمر صحيح، و لكنه ليس من صلاحيات الجيش أيضا تقديم الحلول السياسية و إلا انغمس فيها ، و هي نقطة يجب تفهمها من الطبقة السياسية ، حتى تبادر و تطرح حلولا واقعية تأخذ بعين الإعتبار عامل الوقت وحساسية الظرف الذي تمر به الجزائر و تساهم في حل الأزمة و ليس في تعقيدها .
ثالثا : رفع سقف المطالب و مآلاته الواقعية
إن لحظات الشعور بالإنتصار و القوة عادة ما يرتفع معها سقف التوقعات ، كتوقع تحقيق مطلب التغيير و الإنتقال الديمقراطي بشكل سريع.
وهنا علينا الإنتباه إلى أن المبالغة في ذلك قد تسوقنا إلى نوع من الوهم ، الذي سيصطدم بواقع الثقافة السياسية والموروثات الثقافية و التعقيدات الإدارية و الممارسات البيروقراطية ، و الإقتصاد المتأزم، و هي كلها عوامل جوهرية في أي عملية تغيير حقيقي، ونعلم جميعا أنها من العوامل المثبطة للتغيير في الجزائر و سنكون بحاجة الى وقت طويل لتهيئتها لهذه العملية.
إن إمكانية التغيير السريع للواقع السياسي و القانونى والأخلاقى و الإقتصادي لا يحدث بين ليلة و ضحاها، بل يتطلب صياغة توقعاتنا بشكل واقعي و موضوعي، حتى لا يصيبنا الإحباط الجماعي فيشلنا عن فعل التغيير للواقع المعقد مستقبلا.
فليس لدى النظام ولا المعارضة عصا موسى لمعالجة اختلالات عميقة في الدولة الجزائرية استوطنت فيها لعقود, كما أن التغيير السلس المنشود لن يكون إلا عبر مسار طويل و شاق وبكل تأكيد سيمر بمطبات و مراحل عديدة، و يجب التأسيس له عبر مشاركة الجميع سلطة و معارضة و ناشطين و مثقفين وعلماء و غيرهم.
رابعا : محاسبة الفاسدين امام القضاء الوطني :
بلغ الفساد في الجزائر مراتب متقدمة على المستوى العالمي ، و كان من بين أهم أسباب الهبة الشعبية، فلا يعقل أن يعيش شعب بلد غني كالجزائر مثل شعوب الدول الفقيرة المتخلفة التي لا تملك من الثروات شيئا.
لقد كانت المطالبة برحيل الفاسدين و الناهبين للمال العام و محاسبتهم هي أول الشعارات المرفوعة و أهم الهتافات التي دوت الحناجر. تزامن ذلك مع بروز الكثير من الشهادات التي طالت الكثير من السياسيين ورجال الأعمال المقربين من السلطة ، و هنا تجب محاسبتهم أمام العدالة ككل الدول الديمقراطية التي تحترم مؤسساتها القضائية، لأن المحاكمات الإعلامية و الشعبية وفقا لمنطق الأهواء يضر صورة الدولة الجزائرية و مؤسساتها الرسمية أمام العالم، و على كل من يمتلك أدلة على فساد هؤلاء و غيرهم أن يقدمها للقضاء حتى يخضع المتهمون لمحاكمات رسمية عادلة، و على الجهات القضائية المختصة تحريك الدعاوي بسرعة ضد المشتبه بهم، و الإستجابة لمطلب الشعب و الجيش معا، الأخير الذي وصفهم بالعصابة التي نهبت المال العام، مما سيعيد للجزائريين الأمل في بناء اقتصاد جديد مبني على تكافؤ الفرص بين الجميع، و مما سيردع كل من له النية في النهب اعتقادا أن لا حسيب و لارقيب عليه.
لكن وجب الانتباه إلى أننا مقبلون على أزمة اقتصادية حقيقية حسب الخبراء، وسنكون بحاجة لبناء الثقة بين رجال الأعمال والمواطنين ، فوضعهم جميعا في سلة واحدة و الخلط بينهم سينعكس سلبا على مناخ الإستثمار والإقتصاد الوطني عموما، لذلك وجب التمييز بين العناصر الفاسدة منهم و بين أولئك الذين لديهم إلتزام قانوني و أخلاقي في أنشطتهم.
إعلامية و باحثة في العلوم السياسية.