د. سماء سليمان
تشهد منطقة البلقان في العام الحالي تطورات متلاحقة كانت بداية ارهاصاتها تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 17 يناير 2019 عن أن سياسة الدول الغربية الهادفة إلى ضمان هيمنتها على المنطقة تشكل عنصراً مزعزعاً للاستقرار، فضلا عن موافقة برلمان مقدونيا على تغيير اسم دولة مقدونيا إلى “جمهورية شمال مقدونيا” في 11 يناير وأيضا موافقة البرلمان اليوناني على اتفاق يقضي بتغيير اسم جمهورية مقدونيا المجاورة يوم 24 يناير، وهو ما كان شرطا أساسيا لقبولها في حلف شمال الناتو، الأمر الذي يؤذن لحالة من الصراع بفعل سخونة الأحداث والوقائع المحلية والإقليمية والدولية الجارية، خاصة أن هذه المنطقة مرشحة بقوة لتصبح بؤرة صراع بين روسيا وأمريكا لتوطيد نفوذ طرف أو تقليل نفوذ الآخر فيها تمهيدا للتأثير المباشر والفاعل في منطقة أوروبا، وهذا ما يدعو للتساؤل: هل ستلعب منطقة البلقان دور الفتيل الذي سيشعل الحريق القادم؟ ما حقيقة دور أمريكا والاتحاد الأوربي وحلف الناتو في المنطقة؟
بداية، تقع منطقة البلقان في الجزء الجنوبي – الشرقي من القارة الأوروبية، وتنقسم المنطقة إلى منطقتين فرعيتين هما: البلقان الغربي: ويضم ألبانيا وجمهوريات يوغوسلافيا السابقة (مقدونيا – مونتينيغرو – كرواتيا – سلوفينيا – البوسنة والهرسك – صربيا وكوسوفو)، والبلقان الجنوبي: ويضم اليونان – بلغاريا – تركيا.
وقد أدى موقع منطقة البلقان الغربية إلى جعلها منطقة تعج بالتوترات والصراعات الداخلية نظرا لما تتميز به من التعددية الدينية والثقافية الشديدة فضلا عن قابلتها الشديدة لعدوى الأزمات والاضطرابات إلى قلب القارة الأوروبية بما جعل منها منطقة غير مستقرة. في حين تتميز منطقة البلقان الجنوبي بالاستقرار والنمو الاقتصادي، وبالانسجام الديني والثقافي.
وقد دفع هذا الموقع منطقة البلقان لأن تصبح ذات أهمية للأمن الأوروبي بسبب حساسية الاعتبارات الجيو-سياسية المتعلقة بطبيعة الممر البلقاني وتداعياته على حركة التواصل البري والبحري في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي – الشرقي الأوروبي.
يمكن القول أن الصراع الدولي على منطقة البلقان هو صراع تاريخي بين الإمبراطوريات العالمية والقوى الكبرى، ويدور الصراع الآن بين كل من روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي.
أولاً: أمريكا:
تسعى واشنطن حاليا إلى تعزيز وجودها في هذه المنطقة عن طريق استخدام المعونات والمساعدات كوسيلة للسيطرة على البلقان الغربي وهدفها في ذلك هو استخدام البلقان الغربي للسيطرة على الاتحاد الأوروبي الجنوبية – الشرقية وللتحكم في حركة إمدادات الغاز والنفط والطرق البرية ذات الأهمية الحيوية للربط بين دول الاتحاد الأوروبي والقارة الآسيوية ومناطق البحر الأسود، إضافة إلى ذلك تسعى واشنطن إلى حرمان موسكو من العودة واستعادة نفوذها في المنطقة.
كما سعت أمريكا إلى توسيع دورها في المنطقة من خلال توسيع رقعة حلف الناتو، فضلا عن التواجد الأميركي القوي في المنطقة ومن ثم تحجيم أي دور روسي محتمل, ويمكن القول أن الصراع الأميركي-الروسي في جنوب شرق أوروبا مرتبط بالصراع الأشمل في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى.
ثانياً: روسيا:
تحاول موسكو استعادة دورها المؤثر على الساحة الدولية من بوابة منطقة البلقان الغربية, خاصة وأن الدول التي التحقت بعضوية حلف الناتو إثر انهيار الاتحاد السوفيتي تمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، مما يمنع روسيا من الوصول إلى البحر الأدرياتيكي، حتى وإن لجأت إلى استعمال قوتها العسكرية في سبيل تحقيق ذلك، ومن ثم تعمل على استعادة نفوذها في المنطقة لعدة اعتبارات منها:
1-تعد منطقة البلقان الممر الوحيد للتواصل البري والبحري لروسيا مع بقية العالم، ومن ثم فإن إغلاقه سيؤدي إلى خنقها، ولذا تلجأ موسكو عن طريق الوسائل الاقتصادية، حيث تعد موسكو، المصدر الأول للطاقة في المنطقة، ولعل أبرز مشاريع الطاقة التي تستهدف المنطقة هو المشروع الروسي المعروف بـ”يوجني توك” أو الخط الجنوبي لإمدادات الغاز الذي يمرّ عبر عدد من دول البلقان، والذي من المقرر أن يُمدّ كامل أوروبا بالطاقة التي تحتاجها. وبالتالي تسعى موسكو إلى تحقيق استراتيجية بعيدة المدى تتمثل في سيطرتها على دول البلقان ومن ورائها أوروبا لذا تسعى إلى عدم تفعيل معارضة الاتحاد الأوروبي لمشروع روسيا “يوجني توك”.
2-تشكل العوامل الثقافية والدينية الأرضية الخصبة للتواصل البلقاني – الروسي، فموسكو كانت دومًا حريصة على لعب دور اساسي تجاه البلدان البلقانية السلافية التي تدين بالأرثوذكسية، مثل: رومانيا وبلغاريا وصربيا ومقدونيا واليونان، هذا وتعول موسكو على صربيا أكثر من غيرها في مساعدتها على تأكيد دورها في المنطقة، ومن ثم سوف تلعب موسكو دورا في منع صربيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
3- لجوء موسكو إلى استخدام حق الفيتو للحيلولة دون الاعتراف بسيادة واستقلال كوسوفو كما فعلت عام 2007، حيث منعت الاتحاد الأوروبي وأميركا وعدد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من تبني قرار الاستقلال، وهو ما أبقى كوسوفو، على المستوى السياسي وحتى على مستوى الشرعية القانونية الدولية، مسألة غير منتهية حتى اليوم.
ثالثاً: الاتحاد الأوروبي:
تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى السيطرة على وضع منطقة البلقان، حتى لا تسعى أيا من روسيا أو أمريكا إلى ملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، وحتى لا يترتب على هذا الفراغ اندلاع النزاعات والحروب بما تهدد تداعيات الأمن الاستراتيجي الأوروبي، خاصة بسبب قابلية البلقان لنقل عدوى نزاعاتها بشكل عابر للحدود إلى قلب القارة الأوروبية.
مستقبل منطقة البلقان:
العوامل المحركة لمستقبل المنطقة:
1-قدرة الاتحاد الأوروبي على تطبيق استراتيجية امتصاص الكيانات البلقانية الصغيرة وضمها واحدة تلو الأخرى بما يتيح إدماج كامل المنطقة ضمن الاتحاد، من خلال استخدام الوسائل الاقتصادية والسياسية وتقديم المعونات والمساعدات المالية مع مطالبة دول البلقان بالقيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يتماشى وينسجم مع معايير الاتحاد الأوروبي بحيث يتسنى قبول عضوية هذه الدول في الاتحاد الأوروبي.
2-نجاح الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على الروابط الاقتصادية والأمنية والسياسية الوثيقة مع البلقان من خلال توقيع عدد من الاتفاقيات تضمن انضمام دوله إلى الاتحاد، ومنها:
أ-اتفاقية الاستقرار في جنوب شرق أوروبا.
ب- المبادرة الأوروبية الوسطى.
جـ-اتفاق التجارة الحرة الأوروبية الوسطى.
د- اتفاقية التعاون الاقتصادي لمنطقة البحر الأسود.
هـ- مبادرة التعاون لجنوب شرق أوروبا.
3- قدرة واشنطن على بناء الروابط والعلاقات الثنائية مع دول البلقان بما يتيح لواشنطن نشر قواتها العسكرية مقابل تقديم المساعدات والمعونات، وحث هذه الدول على السعي لنيل عضوية حلف الناتو كخيار أولي قبل السعي لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي.
4- قدرة روسيا على تشييد مشروعات تمديد أنابيب النفط والغاز بما يتيح إدماج اقتصاديات دول البلقان ضمن دائرة النفوذ الاقتصادي الروسي.
5- قدرة روسيا على الابقاء على صربيا حليفة ثابتة رغم أنها مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وترجع الروابط القوية بين البلدين بسبب الديانة الأرثوذكسية التي وصفها بوتين بأنها “صلة القربى الروحية والثقافية” بينهما، فضلا عن تقاربهما في قضية كوسوفو، الإقليم الصربي السابق الذي ترفض بلغراد الاعتراف باستقلاله.
6- نجاح روسيا في التشكيك في “شرعية” استفتاء تغيير اسم مقدونيا والذي كان هدفه حل خلاف مزمن مع اليونان للحيلولة دون انضمام مقدونيا إلى حلف الناتو، ولذا اتهم بوتين الغرب بالضغط على مقدونيا ومونتينغرو، المرشحة الجديدة للانضمام إلى حلف الأطلسي، خلافا لرغبة شعبي هاتين الدولتين.
يمكن القول أن السيناريو الأرجح للحدوث هو سيناريو “استمرار الوضع الراهن من الصراع لفترة زمنية قادمة”، حيث ستستخدم كل من القوى الثلاث روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي أدواته المختلفة لبسط نفوذه على دول البلقان، حيث وسعت روسيا تعاونها العسكري مع صربيا، وفي المقابل شكلت الولايات المتحدة وحدات استخبارية جديدة للخدمة في البنتاغون للعمل في دول البلقان وأوروبا الشرقية، للقيام بعدة مهام منها: محاربة الإرهاب والتهديدات السيبرانية وعدم الاستقرار في هياكل الاستخبارات العسكرية، والمراقبة الحذرة لنشاط روسيا في البلقان ومناطق أخرى من أوروبا، والرد عليه، فضلا عن جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها، والقيام بعمليات مختلفة لمساندة مجموعات الدعم في ألمانيا وإيطاليا والعمليات الطارئة في البلقان، بالإضافة إلى الرد العسكري على نشاط العدو وهو بالنسبة لأوروبا وواشنطن يتمثل في روسيا في الدرجة الأولى، وكذلك مختلف القوى السياسية في البلقان وأوروبا الشرقية التي لا تسير وفق مصالح واشنطن.
أي أن الحرب ستكون “هجينة” بين الأطراف الثلاث وهدفها تحقيق الأهداف العسكرية الاستراتيجية والجيوسياسية ومن المتوقع أن تأخذ عدة أشكال منها: في صورة معلومات في وسائل الإعلام، وأعمال شغب وحوادث، وذلك في محاولة لأن تصبح صربيا هي المسرح القادم للأحداث خاصة أنها الحليف الباقي لروسيا في المنطقة، كما تعزز علاقاتها معها اقتصاديا وعسكريا ويقف شعبها ضد الانضمام إلى حلف الناتو، ومن مؤشرات ذلك ما نشره موقع المشتريات الحكومية، الذي أشار إلى أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) خصصت أموالا لتنظيم وإجراء إصلاحات في التشريعات الصربية في مجال الإعلام، بهدف الضغط على الرئيس ألكسندر فوتشيتش، وكذلك تكوين فكرة إيجابية عن الناتو لدى الجماهير وتشكيل موقف سلبي من موسكو، وقد يكون لذلك علاقة بـ “خطط إنشاء روسيا قاعدة عسكرية في مدينة نيش”، وقد كتبت الصحف الصربية عن هذه الخطة منذ عام 2014 من وأن نشاطها سيبدأ نهاية عام 2017، وأنها سوف تضم زهاء 5000 عسكري روسي.
هذا، ومن المتوقع أن يشتد النزاع عاجلا أم آجلا بين كوسوفو وصربيا، خاصة بعد موافقة البرلمان في كوسوفو في ديسمبر 2018 على تحويل “قوة أمن كوسوفو” القائمة إلى جيش، رغم عدم اعتراف صربيا باستقلال كوسوفو عنها، وهي الخطوة التي جاءت بتأييد أمريكي تمهيدا لانضمام كوسوفو للناتو، ولكن سيبقى الاعتراف باستقلالها رهنا بالفيتو الروسي في مجلس الأمن، ولذا قد تسعى روسيا إلى نشر قاعدة أو قاعدتين في صربيا كما فعلت في سوريا، مما يعني أن ثمة صراعا مفتوحا يلوح في الأفق.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.