الرئيسية / أخبار / الديمقراطية الليبرالية في أزمة. لكن … هل نعرف ما هي؟

الديمقراطية الليبرالية في أزمة. لكن … هل نعرف ما هي؟

منذ 25 عامًا، حذر فريد زكريا من تهديدٍ جديد ومتزايد: صعود “الديمقراطية غير الليبرالية” في العالم. حيث كانت الحكومات المُنتخبة ديمقراطيًا تخرق المبادئ الليبرالية بشكل روتيني، وتنتهك علنًا سيادة القانون، وتحرم مواطنيها الحقوق والحريات الأساسية.

اليوم، يعتقد الكثيرون أننا نقف على حافة أزمةٍ وجودية. فالديمقراطية الليبرالية “أقرب إلى الانهيار مما يمكن تخيله”، يكتب إد لوس في (الفايننشال تايمز). وفي كتاب جديد وأساسي، تحذّر مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة من إعادة إحياءٍ للفاشية.

هناك إجماع متنامٍ على أن الديمقراطية الأميركية ذاتها في خطر. يصنف مؤشر الإيكونوميست الولايات المتحدة على أنها “ديمقراطية منقوصة”. هناك خطر في الداخل: أصبح الأميركيون راضين عن ديمقراطيتهم، وفقدوا الاهتمام بمثلهم التقليدية. لقد فشلت الليبرالية، يكتب باتريك دينين. والمشكلة، كما يقول ديفيد بروكسفي صحيفة (نيويورك تايمز)، هي أن الليبراليين نسوا كيف يدافعون عن “قيمهم الديمقراطية الليبرالية”. يجب أن يعودوا إلى المبادئ الأولى، يجب أن يتذكروا “مبدأ الديمقراطية الليبرالية”.

المشكلة هي أننا لا نعرف حقًا ما هي الديمقراطية الليبرالية. تتحدث مجموعة من الكتب والمقالات ومقالات الرأي عن موتها، لكن مؤلفيها يتكلمون على بعضهم البعض أو في حلقة مفرغة، لأنهم يستخدمون تعريفات مختلفة للمصطلح. يعرّف إد لوس الليبراليّة بطريقة، وديفيد بروكس بطريقة أخرى وباتريك دينين بطريقة ثالثة. كيف يمكننا إجراء مناقشة مناسبة حول الديمقراطية الليبرالية، عندما لا نتحدث عن الشيء نفسه؟

تتعلق المشكلة بأكثر من الدلالات. يقود الخلط بين المصطلحات إلى تفكير مشوّش. إنه يُضعف فهم الليبراليين لمبادئهم، ويضعف سياساتهم، حيث يستغل خصومهم بسهولة الغموض أو الالتباس اللفظي، لذا فقد آن الآوان لكي نوضح ما تعنيه عبارة “الديمقراطية الليبرالية”، وما تمثلّه، أو ما تكونه. لهذا نحن بحاجة إلى فهم تاريخها.

أحد الأخطاء الشائعة هي أن ندمج الليبرالية مع الديمقراطية. المفهومان ليسا مترادفين، بالنسبة إلى معظم تاريخهما، ولم يكونا متوافقين أيضًا. منذ عهد الإغريق القدماء، كانت “الديمقراطية” تعني “حكم الشعب”. البعض فسر ذلك بأنه يعني المشاركة السياسية المباشرة من قبل جميع المواطنين الذكور، بينما عدّها آخرون بمثابة نظام تمثيلي قائم على حق التصويت لجميع المواطنين الذكور. في كلتا الحالتين، ومع ذلك، في القرن التاسع عشر، كان معظم الليبراليين معادين لفكرة الديمقراطية ذاتها، التي ربطوها بالفوضى وحكم الغوغاء. من الصعب العثور على ليبرالي كان متحمسًا للديمقراطية، خلال ذروة ما يُدعى في كثير من الأحيان “الليبرالية الكلاسيكية”. في الواقع، ليس من الخطأ القول إن الليبرالية اختُرعت أصلًا لاحتواء الديمقراطية.

من المؤكد أن مؤسسيّ الليبرالية لم يكونوا ديمقراطيين. مثَّلَ بنيامين كونستانت شروط الملكية الصارمة لكلٍ من التصويت وحيازة المناصب. والثورة الفرنسية أثبتت لليبراليين مثله أن الجمهور غير مستعد إطلاقًا للحقوق السياسية. كان الناس جاهلين، وغير عقلانيين، وميالين للعنف. وتحت ضغطهم، تم تعليق حكم القانون، وأُعدم “أعداء الشعب”، وتم الدوس على الحقوق. كانت المرحلة الأكثر ديمقراطية في الثورة هي الأكثر دموية أيضًا.

إن استبداد نابليون، الذي تشرعن مرارًا من خلال الاستفتاءات القائمة على أساس حق الاقتراع العام للذكور، أكّد تمامًا مخاوف الليبراليين من الديمقراطية. لقد أثبتت شعبية الإمبراطور، بشكل لا لبس فيه، أنه كان لدى المواطنين الفرنسيين ميلٌ أو ولع بشكل غير صحي نحو الحكام الاستبداديين، وكانوا عرضة للدعاية على نحو محتوم. اختُرعت كلمات جديدة لتسمية نظامه الديمقراطي الزائف، فالبعض وصفه بأنه “استبداد ديمقراطي”، بينما استخدم آخرون مصطلحات “البونابرتية” أو “القيصرية”. وسماه كونستانت “اغتصاب للسلطة”. “المغتصبون” مضطرون باستمرار إلى تبرير مواقفهم، لذلك يستخدمون الأكاذيب، والدعاية لتصنيع (فبركة) الدعم. إنهم يشكّلون تحالفات مع السلطات الدينية لدعم أنظمتهم. إنهم يأخذون بلادهم إلى حروب عديمة الفائدة، لصرف انتباه الناس عن خيانتهم، في الوقت الذي يعززون سلطتهم، ويكدّسون الأموال في جيوبهم الخاصة، ويُغنون أصدقاءهم. الأسوأ من ذلك كله، أنهم يفسدون شعوبهم عن طريق خداعهم للمشاركة في أكاذيبهم.

ألكسيس دو توكفيل كان لديه شكوك عميقة حول الديمقراطية. ثورتان فرنسيتان إضافيتان: واحدة في عام 1830، والأخرى في عام 1848، أعقبهما نابليون آخر؛ الأمر الذي أحزنه كثيرًا، وهو الأمر الذي أثبت مرةً أخرى أن الجماهير كانت فريسةً سهلة للديماغوجيين والديكتاتوريين المحتملين الذين يُلبّون غرائزهم الدنيئة. عززت الديمقراطية صيغةً خبيثة من الفردية، وهي كلمة أخرى للتعبير عن الأنانية في قاموس توكفيل.

قضى الليبراليون الأوائل مثل كونستانت وتوكفيل الكثير من الوقت يفكرون في كيفية مواجهة مخاطر الديمقراطية. كان يجب وضع حدود على سيادة الشعب، وعلى سيادة القانون، والحقوق الفردية المكفولة. لكن القوانين الجيدة لن تكون كافية أبدًا، بما أنه يمكن لرجلٍ قوي شعبي بسهولة إفسادها، أو ببساطة تجاهلها. إن بقاء الديمقراطيات الليبرالية على قيد الحياة يتطلب وجود مواطنين مثقفين سياسيًا. سافر كونستانت في جميع أنحاء فرنسا لتعليم المواطنين الفرنسيين مبادئ دستورهم، وحقوقهم، وواجباتهم، ونشر مقالاتٍ، وألقى خطابات للغرض ذاته، وحارب ببسالة من أجل حرية الصحافة.

اعتقد كلا الرجلين أيضًا أن بقاء الديمقراطية الليبرالية حيّةً يعتمد على قيم أخلاقية معينة. ويتطلب الأمر غيرةً عامة، وإحساسًا بالمجتمع. فكر توكفيل بعمق بخصوص تعزيز “الأخلاق العامة” و”الفضيلة العامة”، وعانى كونستانت كثيرا من التواكل السياسي، واللامبالاة الأخلاقية، والأنانية التي رآها تنتشر من حوله. الدكتاتوريون فقط استفادوا من مثل هذه الرذائل.

ما هي الكيفية لمواجهة التدهور الأخلاقي؟ لقد فكروا في هذا أيضًا. كان التزام النخب المهتمة بالشأن العام أساسيًا. يجب أن تكون “الطبقات المستنيرة” و”الرجال ذوو النوايا الحسنة”، “مبشرين بـ الحقيقة”، كما كتب كونستانت. عليهم أن يضاعفوا جهودهم لمواجهة النزعة الشكيّة والمصلحية التي كانت تبعد الناس عن الخير العام. وكما قال توكفيل، كان من الضروري أن “تعلّم الديمقراطية”. وهذا هو “الواجب الأساس المفروض على قادة المجتمع اليوم”.

إنها علامة حزينة على الأوقات التي تبدو فيها مثل هذه العبارات ساذجة جدًا، أو جوفاء اليوم. والحقيقة هي أنه لا يزال أمامنا الكثير لتعلمه من الآباء المؤسسين لليبرالية، الذين عاشوا أزمة وجودية خاصة بهم. كانوا مدركين للنزعة بأن الديمقراطيات لا بدّ أن تصبح غير ليبرالية. دعونا نستمع ونصغي إلى دروسهم.