لم يكن الخطاب السنوي للرئيس بوتين خطاباً تقليدياً، وبكل تأكيد أيضاً لم يكن خطاباً يهدف لدعم حملته الانتخابية القادمة فقط، ولم يكن اختيار مقاطعة كالينينغراد لإقامة منتدى الإعلام الروسي من بين كل المقاطعات الروسية محض تحضير عبثي، هذا الخطاب سبقه الكثير من الممارسات العدائية الأمريكية حيث تحاول واشنطن اليوم استكمال الطوق الجيوستراتيجي البري لتطويق روسيا انطلاقاً من دول البلطيق التي نشرت فيها كتائب الناتو الأربعة بقرار القمة الأكبر تاريخياً للناتو في وارسو 5/7/2016، إلى دول البلقان في أوربا الشرقية وصولاً إلى تعزيز التواجد الأمريكي في أفغانستان بدلاً من الانسحاب، وضم البشمركة في أقليم كردستان العراق إلى الناتو كجيش احتياط، وبناء القواعد العسكرية في الشرق السوري. ومن جانب آخر نشر الدرع الصاروخية في رومانيا وشحنها بالصواريخ، واتهام موسكو بعدم الالتزام بمعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية متوسطة وقصيرة المدى (ستارت3)، والتي تحولها واشنطن إلى فزاعة لتحريك مخاوف بروكسل.
هذه الإجراءات الأمريكية المتلاحقة تزامنت مع إجراءات من نوع آخر وهي المواجهة بالقوة الناعمة كمكون رئيس لاستهداف روسيا وحتى الفضاء الأوراسي كاملاً، حيث تحرك الملفات الساخنة ضد روسيا كملف كوريا الشمالية والنووي في الشرق الأقصى، وملف البرنامج البالستي الإيراني ودعم الحوثيين، وملف سورية والسلاح الكيميائي في منطقة الشرق الأوسط، وملف أقليم الدونباس في أوكرانيا واتهام موسكو بمخالفة اتفاقيات (منيسك1و2)، لتشكل كل هذه الملفات أدوات ضاغطة كبيرة تتذرع بها واشنطن لفرض عقوبات اقتصادية قاسية على موسكو كوسيلة لاستهداف الرافعة الاقتصادية التي قد تمنح روسيا القدرة على منافسة الولايات المتحدة الأمريكية جيوبولتيكياً، بالتزامن مع ممارسة الدعاية الدولية المضادة بهدف “شيطنتها”، بالإضافة إلى الحرب الدبلوماسية التي تخوضها وزارة الخارجية الأمريكية لمنع موسكو من بيع منظوماتها الدفاعية للدول التي تخضع لمجال السيطرة والنفوذ الأمريكي.
كل هذه الممارسات توجت بإعلان ترامب للاستراتيجية الامريكية الجديدة والتي وصفت روسيا بالمنافس والمزعزع للاستقرار، ووصفتها بمحض قوة أقليمية لا ترقى لتكون قوة كبرى، ولكن مالا تدركه الإدارة الأمريكية أن كل هذه الممارسات لاتزال نابعة من الفلسفة الاسترتيجية القديمة للإدارات السابقة في مواجهة الاتحاد السوفيتي، حيث تبني سياساتها وأجنداتها على مفهوم السعي الروسي لتعديل بنية وترتيب النظام الدولي، لتكون روسيا هي الدولة العظمى بدلاً من الولايات المتحدة الأمريكية على غرار الصراع السوفيتي الأمريكي القديم، بالتالي تسعى واشنطن إلى تطويق روسيا بأدوات المواجهة الأمريكية المشتقة من الفلسفة الاستراتيجية القديمة وهو ما يخلق قصوراً أمريكياً عن فهم الطموح الروسي والدور التي تسعى إليه موسكو، وهي الثغرة الرئيسية التي دخل منها الرئيس بوتين برؤية جديدة لروسيا ودورها في العالم، حيث شرع بتطويق الطوق الجيوستراتيجي الذي تبنيه أمريكا على الحدود الروسية، من خلال القواعد البحرية والجوية في سورية شرق المتوسط، ومن خلال منظومة اسكندر الصاروخية المنشورة في كالينينغراد وهي المقاطعة التي لاتتصل جغرافياً بالأراضي الروسية وإنما تقع بين كل من ليتوانيا وبولندا وتطل على بحر البلطيق، وماخطاب بوتين في هذه المقاطعة إلا للإشارة إلى تفعيل الطوق الخارجي الذي يحاصر طوق الناتو ويفقده أهميته وتفوقه الاستراتيجي، ليتزامن مع إعلانه عن أسلحة جديدة تم تطويرها بسرعة كبيرة غير متوقعة فاقت مفهوم الصواريخ البالستية من حيث فرط السرعة الصوتية ومن حيث لامحدودية المسافة المقطوعة، بفضل المحركات الجديدة للصواريخ والتي تعمل بالطاقة النووية، بالإضافة إلى الطوربيدات البحرية النووية السميرة.
هذا الإعلان الكبير والخطير للرئيس بوتين يمثل ضربة قاضية لعقلية المواجهة الأمريكية، ففي حين تعتمد واشنطن جر موسكو نحو سباق تسلح من طرف واحد عبر الإعلان الاستفزازي للعقيدة النووية الامريكية لدفع موسكو نحو صرف أغلب مواردها وإثقال كاهل اقتصادها بالتسليح والتطوير العسكري، بالتزامن مع فرض عقوبات اقتصادية قاسية ومنعها من بيع فائض السلاح، يكشف بوتين الغطاء عن أسلحة طورت في الظل تكسر التوازن الاستراتيجي مع القوة الأمريكية، ما يعني دفع واشنطن نحو استنزاف اقتصادها لتعديل الخلل في التوازن، أي أن هذا الإعلان قد أوقع الإدارة الامريكية في الفخ الذي نصبته لموسكو، وهو ما يقود إلى الاستنتاج أن العقلية البوتينية تقوم بشكل أساسي على إعادة صياغة الدور الروسي في العالم عن طريق إعادة تصحيح أخطاء الماضي، التي أدت لانهيار الاتحاد السوفيتي، والتي بدت جلياً بقوله “إن الحدث التاريخي الرئيسي الذي أود لو كان بإمكاني تغييره هو انهيار الاتحاد السوفيتي”، وهذا التصحيح يشمل جميع الأصعدة سواءً من خلال سباق التسلح الذي حسمه بالضربة القاضية بمنظومات دفاعية وهجومية كاسرة للتوازن، أو من خلال إعادة بناء التحالفات ومد الجسور مع دول أهملتها موسكو سابقاً في العهد السوفيتي، كخليج النفط -الخليج العربي أو الفارسي- في الشرق الأوسط، واليابان والصين في شرق آسيا، وألمانيا وفرنسا في عمق أوروبا، وصولاً إلى بناء اقتصاد ديناميكي مرن ومتنوع، والتأسيس للفضاء الأوراسي كفضاء اقتصادي تشاركي.
بالتالي نستدل على أن الفلسفة الاستراتيجية الروسية تقوم على ركيزتين أساسيتين الأولى هي تعديل بنية النظام الدولي نحو نظام دولي متعدد الأقطاب ومتوازن وليس أحادي أو ثنائي القطبية، وهو ما لا تستوعبه العقلية الأمريكية التي لاتزال تعتقد أن موسكو تسعى لتزعم العالم بدلاً عن واشنطن، لتكون روسيا الدولة العظمى الوحيدة بين الدول الكبرى، أما الركيزة الثانية هي تحقيق التفوق التكنولوجي بما يحمي روسيا من مخاطر التطويق والأزمات الجيوبولتيكية، ويمنحها تفوقاً استراتيجياً على المشاريع الأمريكية المضادة قرب الحدود الروسية في كل من آسيا وأوربا.
ومن هنا نقول أن خطاب الرئيس بوتين السنوي هو بمثابة إدخال النظام الدولي والعلاقات الدولية إلى مرحلة جديدة لم تشهدها محطات الصراع والمواجهة سابقاً، أي هو خطاب سنوي برتبة إعلان مئوي لطبيعة المواجهات والصراعات في القرن القادم.