د. شهاب المكاحله — واشنطن
لقد شهدت الأعوام السابقة تضحيات أردنية كبيرة سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية لأشاقئها العرب. واليوم وبعد قضية القدس وتخلي عدد من الدول العربية عن الصراط السوي بات لا بد لنا من توجيه الدفة نحو البوصلة الحقيقية لنا وهي المصالح الأردنية أولاً والتي وحدها هي الكفيلة بحماية حقنا في القدس والمقدسات. فنحن لا نطالب هنا بالانحراف أو الانجراف بعيداً عن العمق الاستراتيجي العربي ولكن لا بد من أي يحس الأشقاء أن الأردن وقف معهم في يوم شدة ولا زال وأنهم تناسوا تلك التضحيات الجسام وتوجهوا لدول قد تكون مصالحهم معها آنية.
اليوم يعيش الأردن والأردنيون أقسى الظروف منذ نشأة المملكة الأردنية الهاشمية إذ تجد عمَان نفسها تصارع وحيدة لحماية المصالح العربية بعد أن طغت المصالح الفردية لعدد من الدول العربية على حساب المصالح القومية والإسلامية. وليس مستبعداً أن تفكر القيادة الهاشمية في القادم من الأيام بزيارة سنوية بعد من عواصم القرار العالمي منه لندن وموسكولتشخيص المخاوف الأردنية وهواجس القيادة من مغبة تطور الأوضاع في الشرق الأوسط إذا ما عصفت رياح التغيير عبر بوابة القدس بأمن المنطقة في ظل بوادر تسليح للمعارضة السورية بمبالغ تفوق 500 مليون دولار أميركي في العام 2018 وهذا يعني عبئاً إضافياً على الأردن وعلي جيشه وقواه الأمنية وعبئاً على الشعب الأردني الذي بات ينظر إلى بصيص الأمل عبر البوابة السورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد المملكة الذي تحمَل ما لا تقوى اقتصادات نفطية على تحمله؛ فأثقل كاهل المواطن الأردني بالدين العام والخاص وتحمل الكثير من البطالة لأعوام على أمل انتهاء “الفوضى الخلاقة” في المنطقة التي ما انفكت تخرج من عقدة حتى تقع في عقدة أكبر منها.
نحن لسنا من دعاة المطالبين بتغيير التحالفات التي باتت اليوم أشبه ما يكون بلعبة الشطرنج أبطالها روس وأميركيون وبيادقها عرب وغيرهم من الأمم. نعلم تماماً ان التنافس الإقليمي قد اتخذ منحاً جديداً همَه الأول نهب الشرق الأوسط على حساب قضاياه المصيرية عبر إشغال الحكومات والشعوب بمشاكل داخلية منها الفقر والبطالة والفساد والقضايا المصيرية الحساسة مثل القدس ومستقبل الدول التي تشهد صراعات دموية كسوريا وليبيا واليمن والعراق. كل ذلك لن ينسينا كأردنيين الدفاع عن القدس والوصاية الهاشمية على المقدسات المسيحية الإسلامية تحت أي ظرف أو تحت أي مسمى. فلعبة الشطرنج وإن تعددت قواعدها لا تعني بالنسبة للأردن سوى الحصول على زخم ودعم معنوي وسياسي للقضية الفلسطينية وحقه في الوصاية على المقدسات في القدس الشريف. لذلك فإن ظهرت تحالفات جديدة كان الأردن طرفاً فيها فيعني أن الهدف ليس توليد الاحتكاك مع الدول العربية الأخرى بل لكسب تأييد اقليمي أكبر للقضية المصيرية: القدس.
فإذا ما كانت هناك زيارة مرتقبة لجلالة الملك عبدالله الثاني للندن وموسكو فلا يعني ذلك أن الأردن ابتعد عن واشنطن بل إنه يسير وفق نهج واضح وهو الانحياز السياسي والاقتصادي تجاه الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأميركية والتي تمارس اليوم ضغوطات مختلفة على الأردن لموقفه من قضية القدس. فالأردن وعبر أكثر من 90 عاماً من عمر المملكة تعامل مع كافة الدول بتوازن ودبلوماسية يشهد لها القاصي والداني حافظ خلالها على علاقات خارجية متوازنة. والقيادة الأردنة تبني استراتيجتها على لعبة التوازنات.
وما أشبه اليوم بالأمس!!! ففي الفترة التي أعقبت اجتياح العراق للكويت ورفض الأردن المشاركة في التحالف الثلاثيني العربي والدولي ضد العراق، بقي الأردن مصراً على البقاء في المعسكر العربي والغربي وعمل على ترميم العلاقات لعقود حتى عادت إلى سابق عهدها.
ولا بد لنا من أن نستذكر أن الأردن في الثمانينات من القرن الماضي قد أقام علاقات مميزة كذلك مع دول المحور الشرقي مثل الاتحاد السوفييتي وعبر جمهورياته مثل كازاخستان وأوكرانيا وبلياروسيا وأوزبكستان وأذربيجان كما كان على علاقات قوية مع يوغوسلافيا وتشيكوسلافاكيا. فهدف الأردن من تلك التركيبة الفريدة من المعادلات في العلاقات الخارجية هو البحث عن المصالح لا المعاداة للغرب أو لغيرهم. وهذا سر احترام العالم اليوم له ولقيادته.
واليوم وفي ظل الأزمة الفلسطينية وقضية القدس المصيرية يرى الأردن نفسه مضطراً للبحث عن التحالفات التي تخدم القضية وتحفظ الحق وفق نهج معتدل دون قطع للعلاقات مع دول إقليمية بل بسعي حثيث لترميم تلك العلاقات بما يخدم القضايا المصيرية عبر اللعب بأوراق لا يملكها سوى الأردن الذي يعرف متى يعيد المياه إلى مجاريها في العلاقات بين الدول ومتى يجمدها دون قطعها ومتى يعيد إليها الحرارة دون التخلي عن ثوابته وتحالفاته القديمة. وهذا سر من أسرار مصادقيته ونجاحه في التعاطي مع الدول الكبرى نداَ بند. لطالما كان الأردن رافضاً لسياسة المحاور في الإقليم لأنها لا تجدي بل تدخل المنطقة في أتون حروب يتحمل الأردن عبءاً كبيراً إثرها.
قد تنظر واشنطن أو غيرها من الدول الكبرى إلى دول العالم الثالث نظرة مختلفة عما تنظر به إلى الأردن إذ أنها تعتبر أن المملكة قد جنبتها قيادتها الحكيمة حروباً إقليمية وصراعات عديدة كان يمكن أن تؤدي بالأردن إلى مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية أكبر لأن الأردن وقف عدة مرات وحيداً في وجه إسرائيل وسياستها التوسعية والقمعية بحق الشعب الفلسطيني. واليوم ومع عدم معرفة جدية تهديدات ترامب بقطع المعونات المالية عن الدول التي صوتت ضد قراره في الأمم المتحدة قد يجد الأردن نفسه وحيداً في الميدان ذلك كان التحرك الأردني نداء للقريب والبعيد بأن قضية القدس قد تكون القنبلة الموقوته للشرق الأوسط.