لا شك في أن توقف الحرب في أوكرانيا سيدفع واشنطن إلى تخصيص مزيد من الموارد والطاقة للشرق الأوسط، الذي تضرر الاستقرار فيه نتيجة تركيز الولايات المتحدة على الساحة الأوروبية.
من اليوم الأول الذي وطئت فيه رِجلا الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض، في الـ20 من كانون الثاني/يناير الماضي، استدارت السياسة الخارجية الأميركية 180 درجة فيما خص الحرب الروسية الأوكرانية على الأقل، وكان لذلك تداعيات كارثية على مختلف القوى العالمية، بينما يعتقد كثيرون أنها شكلت فأل خير على قوى ودول أخرى، منها الكيان العبري. لماذا؟ وكيف؟
اقتصادياً
قدمت الولايات المتحدة ودول الناتو الكثير إلى أوكرانيا على مدار أعوام الحرب الثلاثة في حربها مع روسيا، لكن الحصة الأكبر كانت من نصيب واشنطن، التي وصلت مساعداتها إلى 350 مليار دولار، بحسب التقدير الأميركي، في وقت يزعم رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، أن تلك المساعدات لم تتجاوز عتبة 100 مليار دولار اميركي.
في مطلق الأحوال، هذه الأرقام شكلت عامل ضغط على معيشة الشعب الأميركي، بالتزامن مع اندلاع الحرب في الشرق الأوسط، عبر هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي نفذته حركة “حماس” مع بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، بحيث صار لزاماً على أميركا أن تموّل حربين في آن واحد، ولاسيما الأخيرة، التي تُعَدّ حربها الذاتية، وتؤدي فيها دور الشريكة مكتملة المواصفات مع الكيان العبري.
عليه، يرى البعض أن الحرب ضد روسيا نهبت موارد ضخمة من الولايات المتحدة، وأفرغت مخازن سلاحها، بما فيها تلك الموجودة في “إسرائيل”. لقد ضاق ذرع الإدارة الأميركية الجديدة من هدر الأموال على حرب من دون إنجازات، ومن دون هدف. بالإضافة إلى ذلك، يُجري ترامب اتصالات مباشرة بالكرملين حالياً، بينما يخسر زيلينسكي قوته ونفوذه. هذا الضعف الأوكراني يستغله الكرملين بصورة جيدة، وتستخدمه روسيا بفعّالية من أجل تحقيق أهدافها العسكرية والدبلوماسية.
هذا يعني، إذا ما توقفت الحرب في أوكرانيا، وإذا ما سارت “اتفاقية المعادن” بين واشنطن وكييف على ما يرام، وهذا هو الأرجح، بعد حفلة “التأنيب” للرئيس الأوكراني في البيت الأبيض، وباشرت شركات الولايات المتحدة التنقيب عن المعادن، ستبدأ بطبيعة الحال استرداد ما قدمته خلال تلك الحرب. وبالتالي، ستكون إدارة البيت الأبيض مطلقة اليدين أكثر في دعم “إسرائيل”، في مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية، وخصوصاً أن اقتصاد الكيان في حالة تراجع ملحوظ في مختلف المستويات، بالإضافة إلى أن مهمة جيش العدو باتت تحتاج إلى موازنات أكبر كثيراً من السابقة نتيجة ما خسره طوال مدة الحرب في أكثر من جبهة، والتي ما زالت مفتوحة، وبقاء الاحتلال قائماً في غزة وفي مخيمات الضفة، وفي لبنان أيضاً، فضلاً عن تمدد الاحتلال إلى سوريا وإصرار قادة العدو على البقاء هناك إلى زمن غير منظور.
سياسياً
لا شك في أن توقف الحرب في أوكرانيا سيدفع واشنطن إلى تخصيص مزيد من الموارد والطاقة للشرق الأوسط، الذي تضرر الاستقرار فيه نتيجة تركيز الولايات المتحدة على الساحة الأوروبية. والآن، هناك رغبة إسرائيلية – أميركية في أن تتزعزع العلاقات بين روسيا وإيران، إذا وجدت موسكو نفسها أقل اعتماداً على طهران في الحصول على السلاح من أجل الحرب في أوكرانيا.
وأكثر من ذلك، هناك تطلّع إسرائيلي إلى أن ما تقوم به إدارة ترامب يمكن أن يؤدي إلى ابتعاد روسيا عن المحور الصيني – الإيراني. فواشنطن تجذب روسيا إلى خارج هذا المحور بحكمة، في محاولة لتفكيك الحلف الذي يهدد الغرب. وإذا نجحت هذه الخطوة، فإنها ستُضعف التأثير الإيراني بصورة كبيرة، الأمر الذي يعود بفائدة واضحة للكيان العبري.
وثمة من يرى، في هذا السياق، أن فوائد التقارب الأميركي – الروسي سينعكس إيجاباً على الدور الخبيث الذي يضطلع به الكيان في سوريا، بحيث يمنع حدوث احتكاكات مع الجانب التركي، عن طريق إعطاء نفوذ لروسيا هناك، والإبقاء على قواعدها العسكرية في طرطوس واللاذقية. وعمل أخيراً وزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية، رون ديرمر، على ذلك مع الإدارة الأميركية، بتكليف من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لتشكل روسيا نداً طبيعياً لتركيا، وخصوصاً أن للأولى باعاً طويلاً في ضبط التوازنات داخل سوريا، ولاسيما في جنوبيّها، من عام 2015 إلى ما قبل سقوط نظام بشار الأسد.
وبطبيعة الحال، لا تريد روسيا أن ترى الشرق الأوسط خارج سيطرتها. ومن المؤكد أنها لا تريد خسارة أرصدتها في سوريا، التي استثمرت فيها على مدار عقود من الزمن. ويمكن أن تكون المحافظة على الستاتيكو في سوريا لمصلحة “إسرائيل”، التي ترى أن الوجود الروسي هناك، الذي يمكن عقد صفقات معه، أفضل من الوجود الإيراني. وإذا نسّقت واشنطن وموسكو مواقفهما في الشرق الأوسط، فيمكن أن تستفيد “إسرائيل” من هذا الوضع، إذ سيقوم الطرفان المركزيان المؤثران في المنطقة بتقليص النفوذ الايراني.
روسيا والصين وإيران.. مصالح استراتيجية راسخة
لكن، في الواقع، فاتت هؤلاء “اتفاقيةُ الشراكة الاستراتيجية” بين موسكو وطهران، والقائمة على التعاون، اقتصادياً وتجارياً، في مجالات الطاقة والبيئة والمسائل المرتبطة بالدفاع والأمن، والتي وقعها الطرفان في كانون الثاني/يناير الماضي لمدة 20 عاماً، وكذلك اتفاقية التعاون بين طهران وبكين لمدة 25 عاماً، لتعزيز علاقتهما الاقتصادية والسياسية طويلة الأمد، وتبلغ قيمتها 400 مليار دولار، والتي بدأت تثمر مفاعيلها من تاريخ التوقيع عليها في أذار/مارس 2021.
فات هؤلاء، أيضاً، ان الرئيسين الروسي والصيني، فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، يعرفان مصالحهما جيداً، ولاسيما مع الجمهورية الإسلامية، وأنهما لا يمكن أن يركنا إلى سياسات واشنطن المتقلبة، والتي لا تتمتع بميزة الثبات، على غرار دولتيهما وإيران، فتتغير كل أربعة أو ثمانية أعوام، في أبعد تقدير. وإدارة ترامب أمامها أربعة أعوام فقط وترحل، ومنهجيتها القائمة على “الصفقات والضم ورفع التعرفات الجمركية” سوف تترسخ في البيت الأبيض.
يبقى التقارب الروسي – الأميركي حدثاً استراتيجياً، وله تأثير كبير في منطقتنا، وفيه مصلحة إسرائيلية، لكن ليس كما يصورها البعض. روسيا أو الصين من دول العالم الكبرى، وسِمة تنويع الخيارات لصيقة بهما، ولا يبدو إمكان التفريق بينهما وارداً على غرار ما نجح فيه هنري كيسنجر مطلع سبعينيات القرن الماضي. روسيا انتصرت، وطموحاتها الاستراتيجية والجيوسياسية باتت أكبر كثيراً مما كانت عليه قبل الحرب، والصين ليست في حاجة إلى تعريف مصالحها مع روسيا وغيرها من دول العالم، وهي في خضم صراع استراتيجي مع الولايات المتحدة.