الرئيس الأميركي دونالد ترامب أحدث تغييرا جوهريا خلال جولته الخليجية بأن ظهر في صورة التاجر الشريك وليس رئيس أميركيا الذي يرفع سيف التهديد والوعيد كما فعل سلفه الديمقراطي جو بايدن. فإستراتيجية الصفقات والشراكات الاقتصادية تؤسس للندية في التعامل مع دول الخليج، وهي خطوة ذكية أميركيا.
واشنطن- تخلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال جولته في الشرق الأوسط عن نهج التدخل والإملاءات الذي دأبت عليه واشنطن لعقود، متعهدا انتهاج سياسة خارجية أميركية جديدة ترتكز على شغفه كرجل أعمال بإبرام الصفقات وبناء علاقات ودّ واحترام مع زعماء الدول التي زارها.
وتعهد ترامب في السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة أنه لن يلجأ إلى سياسات الإملاء والتدخل في أسلوب حياة هذه الدول، قائلا إن المنطقة حققت “معجزة عصرية على الطريقة العربية”.
وحرص الرئيس الأميركي، الذي يوصف بأنه تاجر وبراغماتي، على الإشادة بالزعماء الذين التقى بهم وإطلاق صفات تظهر احترام واشنطن لشركائها في الشرق الأوسط. وطالت هذه الصفات كذلك الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي كانت واشنطن تصنفه كمطلوب لديها في قضايا تتعلق بالإٍرهاب.
ووصف ترامب الرئيس السوري بأنه شاب يتمتع بشخصية جذابة وله ماض حافل، وأن “لديه فرصة حقيقية للسيطرة على الأمور،” وهي تصريحات تضفي شرعية على حكمه وتقطع الطريق أمام محاولات إرباكه وعرقلته من أيّ دولة إقليمية بما في ذلك إسرائيل.
ويقول مراقبون إن ترامب نجح في ترك صورة إيجابية ليس عن نفسه فقط، ولكن عن الولايات المتحدة بأنها يمكن أن تفكر بعقلانية وأن تؤسس لشراكات تقوم على الندية وتبادل المصالح، وأنها يمكن أن تدير الظهر لإسرائيل من أجل إظهار أن واشنطن تتصرف وفق مصالحها وليس مصالح إسرائيل ولا ضغط اللوبيات الحليفة لها.
ويعطي هذا السلوك مشروعية للاتفاقيات التي تم توقيعها وتشعر الشعوب، التي كانت تنتقد العلاقة غير المتكافئة مع الأميركيين، بأن الصفقات ناجحة وضرورية خاصة أن جزءا كبيرا منها مثلما هو الأمر للإمارات، قد تركز على اقتصاد المستقبل والذكاء الصناعي، ما يؤكد تبادل المصالح.
وفي تحول استثنائي عن سياسات أسلافه، انتقد ترامب بشدة ما أسماه “المحافظين الجدد” الذين كانوا وراء التدخلات العسكرية الأميركية الدامية في المنطقة وخارجها.
وقال خلال منتدى استثماري في الرياض، المحطة الأولى في جولته الخليجية، “في نهاية المطاف، فإن من يُسمّون ببناة الدول دمّروا دولا أكثر بكثير ممّا بنوا”.
ومن دون ذكر أسماء، أضاف ترامب “سيطر الوهم على عدد كبير من الرؤساء الأميركيين بأن على عاتقهم تقع مهمة التغلغل في نفوس قادة الدول الأجنبية وتسخير السياسة الأميركية لتطبيق العدالة على ما يرون أنهم ارتكبوا من خطايا”.
وحاول سلفه الديمقراطي جو بايدن ربط الدعم الأميركي بتعزيز حقوق الإنسان والحفاظ على النظام الدولي. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، غزا الجمهوري جورج دبليو بوش أفغانستان والعراق.
وفشل الرؤساء الديمقراطيون مثل بايدن وباراك أوباما في فهم التطورات الجارية في الخليج، وظلوا يعتقدون أن واشنطن هي صاحبة القرار في كل تفاصيل المنطقة إلى حين اكتشفوا تأسيس دول الخليج لإستراتيجية تنويع الشركاء بالانفتاح على الصين والهند وروسيا وفرنسا وبريطانيا وعقد صفقات كبيرة وإستراتيجية، وأسقطوا بذلك وهم الرؤساء الديمقراطيين بالنظر إلى الخليج على أنه ملعب خاص للشركات الأميركية.ولم يقف تنوع الشركاء عند حدود الشراكات الاقتصادية، بل تعداه إلى ما هو أهم، وهو الشراكات الدفاعية لإفهام واشنطن أن البدائل موجودة وسهلة، وهي أمور فهمها ترامب ويسعى إلى تدارك أخطاء بايدن ومنْ قبله وإعادة بناء الثقة مع الخليجيين.
يقول سينا توسي من مركز السياسات الدولية “شكّل خطاب ترامب في الرياض تحولا واضحا ذا دلالة جوهرية في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط”.
وتابع “بتخليه عن إرث التدخل العسكري وبناء الدول، بعث ترامب بإشارة واضحة إلى أنه ينتهج السياسة الواقعية والتروّي، وهو تحوُّل يلقى صدى عميقا في منطقة أنهكتها الحروب وتدخلات القوى الخارجية”.
لكن هذا يعني أيضا من منظور ترامب تجاهل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مسألة سبق أن وتّرت علاقات واشنطن بشركاء مثل السعودية على خلفية قضية جمال خاشقجي التي سعى بايدن لتحويلها إلى ورقة ضغط ضد الرياض وتحولت فعليا إلى عامل رئيسي في تباعد الشقة بين البلدين الحليفين.
عوضا عن ذلك، روّج ترامب لسياسته البرّاقة القائمة على عقد الصفقات، تماما كما يفعل في بلاده.
من جانبها، عرضت السعودية وقطر والإمارات مبالغ سخية وأبرمت مع الولايات المتحدة خلال زيارته حزمة ضخمة من العقود ومشاريع الاستثمار. وفي المقابل، حظيت تلك الدول بوهج أول زيارة خارجية مهمة لترامب، وبإشادته بقادتها وبها كأمثلة يُحتذى بها لما يمكن أن تكون عليه المنطقة في المستقبل.
في المقابل، زعزعت زيارة ترامب إحدى أقدم ركائز السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والقائمة على دعمها التقليدي لإسرائيل.
ولم يكتفِ الرئيس الأميركي باستبعاد إسرائيل من جدول رحلته، بل بدا وكأنه همّش رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في قضايا رئيسية مثل البرنامج النووي الإيراني وحرب إسرائيل في غزة، والمتمردين الحوثيين في اليمن.
وهو ما دل على تصاعد التوتر خلف الكواليس، وخصوصا بشأن إيران التي تدفع إسرائيل باتجاه الخيار العسكري حيالها.
لكن يتوقع أن يوضع نهج ترامب في عقد الصفقات في السياسة الخارجية، قريبا قيد الاختبار. فهو وإن أبدى استعداده للتوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، قائلا إنه لم يؤمن “قط بوجود أعداء دائمين،” فقد هددها في الوقت نفسه بضربة عسكرية إذا لم تتوصل إلى اتفاق معه.
وبدا جليا أن عقيدة ترامب القائمة على “السلام من خلال القوة” تحمل في طيّاتها الكثير من التناقضات. فخلال زيارته إلى القاعدة الجوية الأميركية في قطر قال “أولويتي هي إنهاء النزاعات، وليس إشعالها.” لكنه سرعان ما استدرك مضيفا “لن أتردد لحظة في استخدام القوة الأميركية إذا اقتضى الأمر للدفاع عن الولايات المتحدة أو عن حلفائنا”.
ويمكن أن يقود التناقض الذي أبداه ترامب في تصريحاته بين حفاوة بالخليجيين ورهان على شراكات إستراتيجية وبين تهديدات لإيران بأسلوب العصا والجزرة، إلى إفشال إستراتيجيته في الشرق الأوسط لأن إيران عنصر محوري في الأمن الإقليمي، وبقاؤها خارج المعادلة قد يربك خطط الرئيس الأميركي.
واتهم المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي الرئيس الأميركي السبت بالكذب عندما قال خلال جولته الخليجية هذا الأسبوع إنه يريد السلام في المنطقة.
وقال خامنئي إن الولايات المتحدة تستخدم قوتها لإعطاء “قنابل تزن 10 أطنان للنظام الصهيوني (الإسرائيلي) لإسقاطها على رؤوس أطفال غزة”.
وذكر ترامب للصحايين على متن طائرة الرئاسة الأميركية بعد مغادرته الإمارات الجمعة إن على إيران أن تتحرك سريعا بشأن اقتراح أميركي للاتفاق نووي وإلا “سيحدث ما لا يُحمد عقباه”.
وقال خامنئي إن تصريحات ترامب “لا تستحق عناء الرد” وأضاف أنها “إحراج للمتحدث (خامنئي) وللشعب الأميركي”.
بتخليه عن إرث التدخل العسكري، أكد ترامب أنه ينتهج سياسة واقعية، وهو تحوُّل يلقى صدى عميقا في منطقة أنهكتها الحروب
وكان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قال في وقت سابق السبت إن ترامب يتحدث عن السلام والتهديد في آن واحد.
وتساءل في فعالية بحرية في طهران “أيهما نصدق؟.. من جهة، يتحدث عن السلام، ومن جهة أخرى، يهدد بأحدث وسائل القتل الجماعي”.
وفي الوقت الذي تحدّث فيه ترامب عن أن إيران لديها المقترح الأميركي، قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في منشور على إكس إن طهران لم تتلق أيّ اقتراح من هذا القبيل.
وأوضح “لا يوجد سيناريو تتخلى فيه إيران عن حقها الذي اكتسبته بشق الأنفس في التخصيب (اليورانيوم) للأغراض السلمية.”
وانتهت جولة رابعة من المحادثات الإيرانية الأميركية في سلطنة عمان يوم الأحد الماضي، دون تحديد موعد جولة جديدة بعد.