ي الوقت الذي تركز فيه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على المفاوضات الثنائية لحل القضايا النووية، يظهر جليا أن هذا النهج لا يمكن أن يعوض أهمية العمل متعدد الأطراف.
وتقول الباحثتان جويس هاكمه والدكتورة ماريون ميسيمر، في تقرير نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) إن الولايات المتحدة تواصل انسحابها التدريجي من الدبلوماسية متعددة الأطراف، وهو تحول يزداد وضوحا في المنتديات الدولية الرئيسية.
ففي الأمم المتحدة، ينعكس هذا التراجع في قضايا كبرى مثل أهداف التنمية المستدامة والمساواة بين الجنسين، وأيضا في مجال الدبلوماسية السيبرانية، حيث قلصت الولايات المتحدة من دورها القيادي في وضع المعايير، كان آخرها استبعاد روسيا من قوائم الجهات الخبيثة في الفضاء الإلكتروني.
وفي عهد إدارة ترامب، تتبنى الولايات المتحدة نهجا يقوم على الدبلوماسية الثنائية بدلا من متعددة الأطراف في معالجة تحديات السياسة الخارجية الكبرى، مثل الحرب في أوكرانيا وخطر انتشار السلاح النووي الإيراني.
ولطالما اعتمد حلفاء الولايات المتحدة على إمكانية التنبؤ بمواقفها ومواقف قيادتها للمساعدة في بناء توافق في الآراء والنهوض بالأهداف المشتركة؛ إذ أن ما تقوله الولايات المتحدة وتفعله في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل متعددة الأطراف أمر مهم.
وتقول الباحثتان إن قيادة الولايات المتحدة كانت غائبة بشكل ملحوظ في اجتماع اللجنة التحضيرية لمؤتمر مراجعة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية الذي اختتم مؤخرا والذي سعى إلى بناء توافق في الآراء من أجل التوصل إلى نتيجة ناجحة في مؤتمر المراجعة العام المقبل.
وتهدف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إلى الحد من عدد الدول المالكة للأسلحة النووية على مستوى العالم، مع السماح لجميع الدول بالوصول إلى التقنيات النووية السلمية مثل الطاقة النووية والطب النووي. إلا أن المعاهدة تواجه ضغوطا متزايدة، لاسيما بعد فشل مؤتمري المراجعة الأخيرين في التوصل إلى وثيقة توافقية، وهي المؤشر الأساسي المتفق عليه لنجاح المؤتمر.
ويزداد الخلاف بين الدول حول بطء وتيرة نزع السلاح النووي من قبل الدول النووية الموقعة على المعاهدة، والصعوبات التي تواجهها الدول غير النووية في الحصول على التقنيات النووية السلمية. لذلك، من الضروري أن يتم الإعداد لمؤتمر المراجعة المزمع عقده العام المقبل بطريقة تضمن نجاحه، وسيكون للدور الأميركي في بناء التوافق أهمية بالغة.
ومع ذلك، لم يتم حتى الآن تعيين عدد من المناصب السياسية الأساسية في وزارة الخارجية الأميركية، والتي عادة ما تسهم في توجيه مواقف الولايات المتحدة في إطار المعاهدة. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت إدارة ترامب تنوي شغل هذه المناصب. وخلال الولاية الأولى لترامب، تركت بعض المناصب شاغرة عمدا، إما لعدم اعتبارها ذات أولوية، أو للسماح للبيت الأبيض بالتحكم بشكل أكبر في مسار السياسات ذات الصلة.
ونتيجة لذلك، من المرجح أن يكون الوفد الأميركي قد استند في مواقفه في الاجتماع التحضيري الأخير الذي عقد في نيويورك، إلى بيانات رسمية، وملخصات لمحادثات ثنائية حديثة، ومواقف أميركية سابقة. ويمثل هذا عمليا نهجا “انتقاليا” يهدف إلى ضمان عدم الغياب الكامل للولايات المتحدة عن محفل متعدد الأطراف مهم، لكنه يجعل من الصعب تقديم مبادرات جديدة أو تولي دور قيادي.
وقد يؤدي تفضيل الولايات المتحدة للمقاربات الثنائية على حساب الانخراط متعدد الأطراف إلى تناقضات في تنفيذ المعاهدات.
فعلى سبيل المثال، تنص معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية على حق إيران في امتلاك طاقة نووية سلمية، مقابل امتثالها لنظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ومع ذلك، تطالب الولايات المتحدة في مفاوضاتها الثنائية الحالية مع إيران بأن تتخلى الأخيرة بالكامل عن قدرتها على تخصيب اليورانيوم. وهو ما يعني أن إيران ستضطر إلى شراء وقود نووي إضافي من مصادر خارجية لمواصلة خططها في مجال الطاقة النووية، وقد شكل هذا الأمر نقطة خلاف رئيسية في المفاوضات الثنائية حتى الآن.
وفي اجتماع نيويورك الأخير، أثار هذا الموضوع تراشقات حادة بين الولايات المتحدة وإيران، حيث أصرت طهران على حقوقها بموجب المعاهدة، بينما أشارت الولايات المتحدة إلى اتفاق نووي حديث أبرمته مع السلفادور كمثال على التزامها بتطبيق المعاهدة وتعاونها مع ما وصفته بـ”الدول المسؤولة”.
وتقول الباحثتان إنه في الوقت نفسه، تعمل عدة دول جاهدة على تطوير مجالات اتفاق مشترك. إذ تقود السويد وألمانيا تحالفا من الدول لتعزيز جهود الحد من مخاطر الأسلحة النووية باعتبارها مجالا محل اهتمام مشترك، في حين تعمل أيرلندا وتايلاند وفرنسا على إجراءات تتعلق بالشفافية والمساءلة كمجالات محتملة للتقارب.
غير أن هذه الجهود، رغم أهميتها، تصطدم بتوترات إضافية ضمن المعاهدة تجعل من الصعب التنبؤ بما إذا كانت الدول ستركز على القضايا الجوهرية، أم أن الخلافات الإجرائية أو القضايا الخارجية ستعيق الوصول إلى توافق.
وإذا هيمنت التوترات على مؤتمر المراجعة العام المقبل، سيكون من الصعب تصور إمكانية توصل الدول إلى نتيجة توافقية. وقد يكون من الأنسب للولايات المتحدة أن تستخدم القنوات الثنائية لتوضيح مواقفها، مع التركيز في الوقت ذاته على تنسيق نتائج مشتركة ضمن الأطر متعددة الأطراف. وفي حالة معاهدة عدم الانتشار، قد يعني ذلك ضمان ألا تؤثر المحادثات الثنائية مع إيران على قدرة المؤتمر على الوصول إلى مخرجات تفاوضية.
وحتى وإن كانت الإدارة الأميركية الحالية برئاسة ترامب لا ترى أن الترتيبات متعددة الأطراف تخدم المصالح الأميركية، فإن من الواضح أن بقاء المعاهدة يصب في مصلحة الأمن القومي الأميركي، إذ أن انهيار المعاهدة قد يؤدي إلى سعي المزيد من الدول لامتلاك الأسلحة النووية، وإيران ليست إلا واحدة منها.
وإن انسحاب الولايات المتحدة من المحافل متعددة الأطراف مثل معاهدة عدم الانتشار، أو حتى إظهار الغموض تجاهها، لا يضعف فقط قدرة المجتمع الدولي على التوصل إلى توافق، بل يمنح زخما للدول التي تسعى إلى إعادة تشكيل الأعراف العالمية. وفي عالم مفتت، لا تزال التحديات العالمية المعقدة تتطلب استجابات منسقة قائمة على قواعد. ومن الممكن لاستمرار الإدارة الأميركية الحالية في تركيزها على عقد الصفقات الثنائية على حساب الانخراط في العمل متعدد الأطراف، أن يعرض منظومة الحوكمة العالمية للخطر.