لم يعد التضخم مجرّد أزمة اقتصادية عابرة، بل تحوّل إلى وسيلة للهيمنة الجيوسياسية تمارسها القوى الكبرى على الشعوب والدول الصاعدة. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تكشف كل أزمة مالية أو نقدية أن السيطرة على المال باتت الوجه الجديد للاستعمار، وأن سعر الفائدة لم يعد أداة تقنية في إدارة الاقتصاد، بل سلاحاً موجهاً بعناية من غرف القرار في العواصم الغربية.
رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة بحجة مكافحة التضخم، لكن النتيجة الحقيقية كانت إعادة ترسيخ هيمنة الدولار وإغراق الاقتصادات النامية في مزيد من الديون والأعباء المالية والانكماش. كل نقطة فائدة جديدة تتحول إلى قيد اقتصادي على دول آسيا وإفريقيا والعالم العربي، مقابل توسّع أرباح البنوك الأمريكية وشركات الطاقة والمال، وتدفق الرساميل نحو المركز المالي الغربي.
ما يجري اليوم ليس مصادفة، بل إعادة هندسة للنظام الاقتصادي العالمي بطريقة تُبقي الأطراف في حالة تبعية دائمة، وتمنح المركز الغربي قدرة دائمة على فرض خياراته السياسية والاقتصادية. حتى أوروبا — التي كانت شريكاً في النظام المالي الغربي — تجد نفسها اليوم تدفع ثمن الانصياع لسياسات واشنطن؛ يورو أضعف، وفاتورة طاقة أعلى، وركود اقتصادي هو الأخطر منذ عقود، نتيجة خيارات لا تخدم سوى هيمنة الدولار والمجمع المالي الأمريكي.
في المقابل، بدأت القوى الصاعدة تدرك قواعد اللعبة وتعمل على تغييرها. فروسيا والصين والهند وغيرها من دول البريكس تتجه نحو تقويض احتكار الدولار عبر تعزيز التجارة بالعملات الوطنية وربط جزء من التبادلات بالذهب. هذا التحوّل ليس اقتصادياً فقط، بل سياسي بامتياز، لأنه يضرب جوهر النفوذ الأمريكي القائم على التحكم بالبنية المالية الكونية.
فسياسات الفائدة المرتفعة فشلت في معالجة التضخم، بل عمّقته ودفعت العالم نحو حلقة مغلقة من الركود والتقشف وتآكل القوة الشرائية. كيف يُعقل أن تُرفع أسعار الفائدة لـ”محاربة الغلاء” بينما تُرفع معها كلفة القروض والإنتاج والمعيشة؟ تلك مفارقة لا تفسَّر اقتصادياً، بل تُقرأ كخطة منهجية لإعادة توزيع الثروة العالمية لصالح الأقلية المالية الحاكمة.
وتتضرر الدول العربية تحديداً من هذا النهج؛ إذ تدفع حكوماتها ثمن الارتهان لسياسات نقدية لا تراعي مصالحها ولا بنية اقتصادها الإنتاجية، وتزيد من هشاشة الاستثمار وتوتر بيئة الأعمال، بدل البحث عن بدائل وشراكات استراتيجية تضمن التنمية والسيادة الاقتصادية.
اليوم يقف العالم عند مفترق طرق:
إمّا استمرار الخضوع لمنطق الفائدة الأمريكية الذي يراكم الثروة في القمة ويعمّم الفقر في القاعدة،
وإمّا التوجّه نحو نظام اقتصادي أكثر عدلاً، يعيد للموارد دورها الحقيقي في خدمة المجتمعات لا المصارف.
الخطر القادم ليس ركوداً اقتصادياً فقط، بل انهياراً أخلاقياً للنظام المالي العالمي القائم على الاحتكار والجشع لا على العدالة والتوازن. وهنا تبرز مسؤولية الدول العربية في قراءة التحوّل بدقّة والتحرّك لبناء شراكات متوازنة، لا سيما مع الصين والقوى الصاعدة، بعيداً عن رهانات ووعود تستنزف الإمكانات وتخدم مصالح الآخرين.
فالرهان على “رحمة الفائدة الأمريكية” أو معاداة الصين بدافع المجاملة الجيوسياسية يضع اقتصادات المنطقة في فخ مكلف، في وقت لم تعد الولايات المتحدة قادرة على إنقاذ الآخرين وهي تكافح للحفاظ على توازنها الداخلي.
ويبقى السؤال الحاسم:
إلى متى تستمر واشنطن في صناعة الأزمات… وإلى متى ستدفع شعوبنا الفاتورة؟
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
