حسين مرتضى
لم تعد الحرب في عصرنا الحديث تقتصر على الميدان والسلاح، بل تجاوزت ذلك إلى ساحة أوسع وأخطر: ساحة الوعي.
في هذه الساحة، تتحرك آلة العدو الإعلامية بذكاءٍ وخبثٍ بالغين، مستغلةً الفضاء الإلكتروني المفتوح وكثافة المعلومات، لتشنّ حربًا نفسية لا تقل خطورة عن أي عدوانٍ عسكري.
فكمية الأخبار المتداولة، وسيل التحليلات الموجهة، ونشر بعض المشاهد المنتقاة بعناية، واعتماد رواية العدو في أغلب التعليقات والتغطيات، ليست تفاصيل عابرة. إنها أدوات مقصودة تُستخدم ضمن خطة مدروسة، هدفها الأساس الضغط النفسي على الجمهور، وتشويش الرؤية العامة، وإضعاف الثقة بالذات وبالمقاومة.
الإعلام كسلاح حرب
يدرك العدو أن الكاميرا اليوم لا تقلّ خطورة عن الطائرة المسيّرة، وأن الكلمة قد تُحدث شرخًا في المعنويات أكثر مما يُحدثه القصف في البنية التحتية. لذلك، يسعى إلى ضخّ كميات هائلة من الأخبار — بعضها صحيح جزئيًا وبعضها مختلق تمامًا — ليُربك المتلقي ويُحدث حالة من الضياع بين الواقع والوهم.
يُسرب المعلومات ويختبر ردود الفعل، يرصد التفاعل الشعبي على وسائل التواصل، ويقرأ مزاج البيئة التي يواجهها، فيجمع البيانات مجانًا، ويستنتج من خلالها درجة التماسك أو الارتباك داخل المجتمعات التي يستهدفها.
هذه الحرب الخفية تعتمد على التكرار والتهويل والتشكيك، وهي أدوات كلاسيكية في علم الحرب النفسية لكنها تأخذ اليوم أبعادًا رقمية أكثر دقة وتأثيرًا.
الثقة بالمقاومة كعامل توازن
في مقابل هذا الطوفان الإعلامي، يبقى الوعي الجمعي المقاوم هو السدّ الحقيقي أمام الاختراق النفسي.
فالإيمان الراسخ بحكمة المقاومة وخياراتها، وبقراءة قيادتها الدقيقة للميدان والزمن، يمنح المجتمع المناعة التي تحميه من الانهيار تحت ضغط الشائعات أو الخوف.
لقد أثبتت التجربة أن الصبر الاستراتيجي والهدوء المحسوب هما جزء من قوة المقاومة، وأن القرارات تُبنى على معطيات ميدانية لا على ردود الفعل الآنية. فحين يضخّ العدو الشائعات، تنتظر المقاومة بصمت، وحين يظنّ أن الارتباك يعمّ الصفوف، يكتشف لاحقًا أن الوعي الشعبي ظلّ صلبًا، وأن الثقة بقيت في مكانها الصحيح.
الحرب مستمرة ولكن الوعي سلاحنا
لا أحد يُنكر أننا في حربٍ مستمرة — حربٍ تُخاض بالسلاح حينًا وبالكلمة حينًا آخر — لكن ما يميز هذه المرحلة هو تداخل الجبهات بين العسكري والإعلامي والنفسي.
ولذلك، فإن الوعي، والتثبّت من الأخبار، وعدم التسرع في التفاعل مع كل ما يُنشر، هي أشكال من المقاومة اليومية لا تقل أهمية عن أي عمل ميداني.
العدو يسعى إلى أن نرتبك، وأن نفقد البوصلة، وأن نرى الواقع بعينه لا بعيوننا.
أما نحن، فواجبنا أن نقرأ، ونفهم، ونُحسن التمييز بين الحقيقة والتضليل، وأن نحافظ على الإيمان بثوابتنا وبعقل المقاومة الذي لم يخذلنا يومًا.
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
