الرئيسية / أخبار / من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة

من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة

مع سقوط نظام الأسد، تدخل سوريا مرحلة إعادة التشكل وسط تحديات سياسية وأمنية واقتصادية غير مسبوقة. تتشابك مصالح الفاعلين المحليين والدوليين في المشهد الجديد، مما يجعل عملية بناء الدولة اختبارًا معقدًا لقدرة الإدارة الجديدة على فرض الاستقرار، وتجاوز مخلفات الحرب، واستعادة دور سوريا الإقليمي. في هذا السياق، يقدم موقع “أسباب” لدراسات الجيوسياسية هذا التقرير الاستشرافي حول حالة الدولة السورية. ويتناول التقرير أبرز التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجه سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، ويرصد ديناميكيات التغيير المحتملة في الداخل والخارج.

كما يسلط الضوء على ملامح النظام السياسي الجديد، والاستراتيجيات المتوقعة لإدارة العلاقات الإقليمية والدولية، والتحديات التي قد تعرقل جهود إعادة الإعمار والاستقرار. يقدم هذا التقرير تحليلاً عميقًا لمستقبل التحديات التي قد تواجه سوريا على المدى القريب، استنادًا إلى المعطيات الحالية والتوجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية الناشئة.

أولاً: الحالة السياسية

سيظل المشهد السياسي في سوريا ضبابياً في الأشهر القليلة القادمة، وسط بيئة معقدة من الفصائل والمنظمات العسكرية والمجموعات السياسية والتنظيمات المدنية في الداخل والخارج، تسعى جميعها للدفاع عن مصالحها في النظام الجديد الذي ما زال قيد التشكل. فعقب سقوط نظام الأسد، أعلن أحمد الشرع، بصفته قائداً للإدارة الجديدة والقائد العام للعمليات العسكرية التي أطاحت بالنظام السابق، عن تعيين حكومة تسيير أعمال مؤقتة حتى آذار/مارس 2025، وأجرى تعيينات هامة في مفاصل إدارية وسياسية وأمنية، بينما تتجه الأنظار نحو مؤتمر الحوار الوطني الذي يجري الإعداد له، والذي قال الشرع عنه إنه سيشهد مشاركة واسعة من أطياف المجتمع السوري وسيضع الأسس لهوية الدولة الجديدة.

مؤتمر الحوار وتكريس الشرعية

يعكس الإعلان عن مؤتمر شامل للحوار الوطني إدراك الإدارة الجديدة لحجم الانقسامات العميقة بين المكونات السورية من الناحية العرقية والدينية والسياسية. لكنّه أيضا يشير إلى حاجة الشرع إلى نقطة ارتكاز قانونية تنهي حالة “قيادة الأمر الواقع”، كي ينتقل من كونه قائداً لفصيل وغرفة عمليات عسكرية ليصبح رئيساً شرعيا لسوريا في المرحلة الانتقالية، والتي ستستمر لسنوات وفق رؤيته. ومن المرجح أن يعلن المؤتمر عن خطوات لترتيب المرحلة الانتقالية، تتمثل في: حل الفصائل المسلحة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، بالإضافة لحل مجلس الشعب، وإلغاء العمل بالدستور السابق، وتشكيل هيئة استشارية للقيادة العامة، والإعلان عن لجنة قانونية لصياغة الدستور، أو اعتماد دستور 1950 مؤقتا، والأهم هو منح الثقة للشرع رئيساً للبلاد، وتفويضه بتشكيل حكومة مؤقتة.

من المتوقع أن يصطدم مؤتمر الحوار الوطني بعقبات، تتمثل في غياب الثقة بين الأطراف السورية المختلفة، واستعجال القوى المعارِضة للمحاصصة لضمان تمثيلها في النظام الجديد، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية المتنوعة، دولية وإقليمية، والتي تصب في اتجاه تمكين مجموعات بعينها. كل ذلك قد يعرقل انعقاد المؤتمر في الأجل القصير أو قد يحد من طابعه الشامل وهدفه المتمثل في التأسيس للحظة إجماع وطني بعد انهيار نظام الأسد. وقد أثارت تحضيرات المؤتمر بالفعل جدلاً حول طريقة الترتيب له والجهات المدعوة ومن يحددها واتجاهه لاستثناء مؤسسات وأحزاب بما فيها ائتلاف المعارضة في الخارج.

يعتمد نجاح مسار الحوار الوطني على قدرة الإدارة السورية الجديدة على احتواء الضغوط الخارجية وتخفيف حدة التوتر الداخلي عبر تمثيل واسع ومعبر عن المكونات السورية، وتوفير مساحة شاملة لكل الأصوات على قاعدة الشراكة وليس فقط الموافقة على خطط الإدارة الجديدة وتصوراتها. وهذا يتطلب تعزيز التحالفات والتفاهمات بين الشرع وبين نخب ومجموعات أوسع قبل التوجه للمؤتمر الوطني.

نظام الحكم وملامح الدولة السورية الجديدة

في ضوء التنوع العرقي والديني وتعدد الفاعلين المحليين والدوليين، ستتأثر مسألة شكل الحكم والدولة السورية الجديدة بعدة عوامل، أهمهما سياسة الشرع وهيئة تحرير الشام باعتبارها الحزب الحاكم الفعلي، وقدرة الشرع على ضبط الأمن وتوحيد البلاد وتحقيق الاستقرار، ومواقف الدول الخارجية ومدى انفتاحها على السلطة الجديدة. وفي هذا الصدد، يبدو أن المستقبل في سوريا مفتوح على سيناريوهات عدة، مثل:

  • بناء نموذج حكم مركزي في دمشق تنصهر فيه معظم الأطراف السورية الفاعلة ويُخضع كل الجغرافيا السورية، وهو الخيار الذي يتمسك به الشرع، ومن المتوقع أن يلقى دعما من أطراف خارجية أهمها تركيا، إذ تلبي سوريا الموحدة والمركزية اعتبارات أنقرة الجيوسياسية والأمنية.
  • نظام فيدرالي يقترب من النموذج العراقي، على أساس التوازن بين حكومة دمشق المركزية، وحكومة إقليم كردية في شمال شرق البلاد. وهو خيار سيلقى دعما من أطراف متعددة رغم تباين مصالحها، مثل العراق و”إسرائيل” وربما الولايات المتحدة وفرنسا. لكنّه من جهة أخرى قد يسبب توترا طويل الأجل مع تركيا.
  • تقسيم البلاد على أسس جغرافية وطائفية وإثنية بعد تدخلات أجنبية تحمي مجموعات محلية وتسعى لفرض نظام حكم ذاتي لكل منها، بحيث يصبح هناك إقليم درزي وإقليم علوي بالإضافة للإقليم الكردي.

ما زال مستقبل سوريا القريب مفتوحا على كافة الاحتمالات. ورغم هذا يبقى السيناريو الأول هو الأقرب للتحقق، وذلك لعدة أسباب، من بينها؛ أن الإدارة الجديدة تملك مزيجا من المرونة السياسية والقوة العسكرية والأمنية ما يمكنها من تفكيك المعارضة ودمجها في الدولة. وكذلك فإن تركيا ودول إقليمية أخرى لن يكون من مصلحتها تقسيم سوريا بما في ذلك على المستوى الفيدرالي. وأخيراً؛ إن انشغال المجتمع الدولي بالحرب الأوكرانية والصراع الإسرائيلي الإيراني والتوترات العالمية بين الصين وأمريكا، ستجعل مسألة استقرار الأوضاع في سوريا هي الخيار الآمن، خاصة إذا قدمت هيئة تحرير الشام ضمانات حقيقية وحافظت على نهجها الشامل تجاه باقي المكونات السورية.

من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة 
الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط وابنه تيمور يلتقيان مع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع – رويترز

من ناحية المضمون؛ من المؤكد أن الشرع يسعى لتأسيس نظام حكم مركزي، وتشكيل منظومة سياسية لها مرجعية إسلامية، تعطي مجالاً لمشاركة المكونات الدينية والعرقية المتنوعة في السلطة وفق مبدأ الكفاءة لا المحاصصة، وعبر آليات انتخابية، مع احتفاظ الموالين للشرع بالمناصب السيادية وعلى رأسها الجيش والأمن والاقتصاد خلال المرحلة الانتقالية. وبينما ليس من المرجح تأسيس صيغة حكم “طالبانية” يحتكر فيها حزب واحد السلطة استنادا على الشرعية الدينية والثورية التي أوصلت القوى الحالية للحكم، فإن التحدي الرئيسي أمام الشرع سيكون بناء ائتلاف سياسي تحت رئاسته خلال المرحلة الانتقالية يضمن استمراره في الحكم في الأجل الطويل في نظام تعددي انتخابي ترفع فيه القيود عن الأحزاب السياسية.

هواجس الثورة المضادة

في الأجل القصير؛ لا يمكن التقليل من المخاوف الخاصة بقيام “ثورة مضادة”، وتكرار سيناريو مُشابه للنماذج التي شهدتها دول عربية أخرى، خصوصاً في ظل تسارع بعض الدول الإقليمية أو القوى الدولية لتحريك جهات محلية سورية، أو بعض فلول النظام. وما يجعل هذا الاحتمال قائما هو أن النظام القديم لا تمثله فقط نخبة حاكمة مدنية أو عسكرية، وإنما أيضا جهاز الحكم البيروقراطي والأجهزة الأمنية المتنوعة والتي لديها جميعا علاقات وتحالفات خارجية، خاصة مع روسيا وإيران. لكن هذا التهديد يحد نسبيا من خطورته التدهور الحاد في مؤسسات نظام الأسد خلال السنوات الأخيرة، كما أن انتصار الثورة في الحالة السورية كان عسكريا، وليس سياسياً شعبيا، وهو ما يجعل من جهود التصدي لفلول نظام الأسد أكثر حسما وسرعة.

مع مرور الوقت وتقدم إجراءات التطهير المتسارعة؛ تفقد الأطراف الخارجية فرص تكوين أو تنشيط مجموعات موالية داخل مؤسسات الدولة، مما يقيد فرص العمل من خلالها لتدبير انقلاب على السلطة الانتقالية. وستظل هذه الديناميكية نشطة طوال 2025 على الأقل. أما انخراط المكونات العرقية (مثل الأكراد) والدينية (مثل الدروز) في تحالفات خارجية مضادة للإدارة الجديدة فيظل احتمالا متوسط الخطورة، يقابله السيطرة الأمنية والعسكرية للسلطة الجديدة وحلفائها من المجموعات المسلحة، ورغبة المجتمع الدولي في استقرار الأوضاع في سوريا وتجنب الانزلاق إلى حالة فوضى لا تقل تداعياتها الأمنية إقليميا ودوليا عن التداعيات السابقة التي شهدت صعود داعش وموجات اللجوء الواسعة إلى أوروبا وتهديدات أمنية لدول المنطقة.