يعبّر كل طرف على علاقة بحرب غزّة عن أزمته بطريقته الخاصة. تبدو أزمة إسرائيل أزمة ذات وجهين. الأول داخلي مرتبط، إلى حد كبير، بشخص بنيامين نتنياهو الرافض للخروج من المسرح السياسي، والآخر وجودي. يرتبط الوجه الوجودي للأزمة الإسرائيلية بقوة الردع التي تلقت ضربة قويّة نتيجة هجوم “طوفان الأقصى”. لا وجود لإسرائيل من دون امتلاك قوة الردع التي فقدتها نتيجة “طوفان الأقصى” الذي شنّته حركة “حماس” وغيّر الدولة العبريّة كلّيا وحوّلها إلى وحش هدفه الأول والأخير تدمير غزّة عن بكرة أبيها وتهجير أهلها. لم يعد الوحش الإسرائيلي في وضع يسمح له بالبحث في أي حلول سياسيّة تأخذ في الاعتبار وجود شعب فلسطيني لا يمكن تجاوزه مهما طال الزمن وتغيّرت الظروف.
في انتظار خروج إسرائيل من أزمتها، التي من شروطها خروج “بيبي” من السياسة إلى بيته… أو إلى السجن، لا خيار آخر أمام الدولة العبريّة غير متابعة حرب غزّة. ستتابع إسرائيل حربها على الرغم من أن التوصّل إلى وقف لإطلاق النار وارد. لا شيء يمنع التزام وقف إطلاق النار، شكلا، ومتابعة الحرب في الوقت ذاته عن طريق توجيه ضربات إلى أهداف معيّنة. ما قد يساعد في الإعلان عن نوع من وقف لإطلاق النار، يكون أقرب إلى تهدئة أو حرب على نار خفيفة ذات طابع “إنساني”، أن الولايات المتحدة لا تمتلك في هذه الأيّام قيادة تستطيع حسم الأمور مع بنيامين نتنياهو. من هذا المنطلق ليس ما يمنع رئيس الحكومة الإسرائيليّة من الاستجابة للطلب الأميركي، أي متابعة حربه معتمدا معايير معيّنة كما يريد الرئيس جو بايدن. استفز بايدن قتل إسرائيل متطوعين من دول غربيّة بينهم مواطن أميركي ينتمي إلى منظمة خيريّة هي “المطبخ المركزيّ الدوليّ”. نجح الرئيس الأميركي في أن يفرض على رئيس الوزراء الإسرائيلي فتح معابر برّية، من بينها كرم أبوسالم، لإيصال مساعدات إنسانيّة إلى الغزاويين الذين فتك بهم الجوع.
لكنّ العامل الأهمّ الذي تستطيع إسرائيل الاستفادة منه، في هذه الظروف بالذات، يتمثّل في الوضع الذي تعاني منه “حماس”، خصوصا في ضوء عجزها عن إتمام صفقة تتعلّق بالأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم. ليس لدى “حماس” من ورقة غير الأسرى الذين تريد، من أجل إطلاقهم، ثمنا لا تسمح لها موازين القوى القائمة بالحصول عليه. يبدو الثمن الذي تريده “حماس”، وهو ثمن مستحيل أميركيّا وأوروبيا أيضا، العامل الأهمّ الذي سيسمح لإسرائيل بمتابعة حربها على غزّة.
تريد “حماس” وقفا دائما لإطلاق النار وانسحابا إسرائيليا كاملا من غزّة وإعادة إعمار القطاع. لا تقول الحركة علنا إنّها تسعى إلى العودة إلى حكم غزّة وكأنّ شيئا لم يكن في وقت ليست لديها سوى ورقة الرهائن. ثمة تجاهل كامل لواقع على الأرض يتمثّل في أن إسرائيل استطاعت تدمير جزء كبير من غزّة وطرد مليون ونصف مليون غزاوي من بيوتهم التي لم تعد موجودة. معظم هؤلاء في رفح على الحدود المصريّة.
من يخرج إسرائيل من أزمتها ومن يخرج “حماس” من عجزها عن استيعاب الواقع الذي جعلها تجد نفسها في حال هروب مستمرّ إلى أمام. تهرب إسرائيل إلى الحرب، نظرا إلى أنّ ليس لدى بنيامين نتنياهو غير الحرب. المأساة أن المجتمع الإسرائيلي الذي يرفض بأكثريته بقاء “بيبي” رئيسا للحكومة يؤيّد استمرار الحرب. يؤيّد الإسرائيليون الحرب نظرا إلى أن كلّ إسرائيلي بات يعرف أن عدم استعادة قوة الردع سيفرض عليه الرحيل عن “أرض الميعاد” في يوم من الأيّام. شئنا أم أبينا سيكون صعبا إقناع الإسرائيليين بقيام دولة فلسطينيّة من دون جهد عربي ودولي يؤدي في نهاية المطاف إلى إقرار ضمانات محددة تحول دون تكرار تجربة “طوفان الأقصى” مستقبلا.
لا تستوعب إسرائيل، أقلّه في الوقت الحاضر، أن لا مفرّ من الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة على أرض فلسطين. لا تستوعب أنّه لا يمكنها التهرب من هذا الاستحقاق إلى ما لا نهاية. في المقابل، لا تستوعب “حماس” أنّها انتهت سياسيا وعسكريا وأنّ أقصى ما يمكنها تحقيقه هو انتقال قادتها الذين مازالوا في غزّة للعيش خارجها.
المؤسف أنّ “حماس” التي يتبيّن في كلّ يوم أنّها كانت تنسق مع إيران في مرحلة الإعداد لـ“طوفان الأقصى” وبعدها لا تستطيع الهرب من أزمتها عن طريق التحريض على دول عربيّة معيّنة. لا تفهم الحركة أنّ هذه الدول التي تحرّض عليها، في مقدّمها المملكة الأردنيّة الهاشمية، ليست لقمة سائغة. الدليل أنّ العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني مطمئن إلى درجة أنّه قرّر القيام بـ“زيارة خاصة” خارج الأردن.
يمكن لفلسطينيين موجودين في الأردن النزول إلى الشارع والقيام بأعمال شغب يوما أو يومين أو ثلاثة… أو عشرة أيّام. ولكن ماذا بعد ذلك؟ هؤلاء الذين يعانون من الجهل لا يدرون أنّ ليس لدى “حماس” تجربة تصلح للتعميم عربيّا. كانت “الإمارة الإسلاميّة” التي أقامتها في غزة منذ منتصف العام 2007 مشروعا فاشلا لم تستفد منه سوى إسرائيل. كان الحصار على غزّة حصارا إسرائيليا- حمساويا في كلّ وقت. راهن كلّ من الطرفين على الآخر إلى أن تبيّن أن للحركة حسابات أخرى في ضوء العلاقة التي تربطها بـ“الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران.
مثلما أنّ على إسرائيل امتلاك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بأزمتها العميقة، يفترض في الحركة الاقتناع بأن لا مستقبل لها، لا في الأردن ولا في غير الأردن ولا في التحريض على هذه الدولة العربيّة أو تلك. أهمّ ما عليها الاقتناع به أن أكثرية المواطنين الأردنيين، الذين هم من جذور فلسطينيّة، لا يجدون مكانا آمنا خارج المملكة الأردنيّة الهاشميّة. وحده الفلسطيني الجاحد يستهدف الأردن!