مهما كانت نتيجة اجتماعات باريس بين وفود أجهزة أمنية من مصر وقطر والولايات المتحدة وإسرائيل للتوصل إلى صفقة للتهدئة في قطاع غزة، فمردودها العملي لن يغير من حسابات إسرائيل وحركة حماس، في ظل لعبة شد وجذب ممتدة بين الجانبين، كاد الخيط الرفيع الذي يحافظ عليه الوسطاء أن ينقطع أكثر من مرة الفترة الماضية.
لا يعني سماح رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو بذهاب وفده إلى باريس أن موقفه تغيّر عمّا كان عليه في اجتماعات القاهرة مؤخرا، وقد يكون التكتيك تبدّل عقب تصاعد الضغوط، بينما رؤيته في تحقيق أهدافه الرئيسية في التخلص من حماس وعودة الأسرى وفرض الأمن الذي يريده في غزة لم تطرأ عليها تغيرات ملموسة.
كما أن حماس التي أبدت مرونة بشأن القبول بتهدئة بدلا من وقف فوري لإطلاق النار، وتبديل صيغة “الكل مقابل الكل”، أي كل الأسرى لديها مقابل كل الأسرى لدى إسرائيل، إلى “الكل مقابل الجزء” عادت وتمسكت بموقفها السابق عندما وجدت الطرف الإسرائيلي عازفا عن تقديم تنازلات ويجد نفسه في موقف أكثر قوة.
فالضغوط الدولية عليه لم تصل إلى الحسم، والاحتجاجات الداخلية مقبولة، واستمرار الضربات العسكرية السبيل لبقاء نتنياهو في السلطة، كما أن قوى المعارضة انضمت إلى معسكر اليمين المتطرف في الكثير من الأهداف التي تنطوي عليها الحرب.
قدّم رئيس حكومة الحرب جزرة إلى اجتماعات باريس في شكل إرسال وفد أمني مخوّل للحديث والتفاوض هذه المرة، بدلا من الاستماع فقط كما كان في القاهرة، وقدّم عصا في الوقت نفسه، إذ طرح صيغته المتطرفة لليوم التالي لوقف الحرب على غزة، ولم تتضمن ما يوحي أنه تزحزح عن موقفه السابق والمعلن، فكل اللاءات التي جاءت تنسف ما يمكن أن يتمخض عنه اجتماع باريس من نتائج إيجابية.
حوت صيغة نتنياهو لاءات كافية للبقاء في المربع صفر، منها: لا لوجود حماس في السلطة، لا للاحتفاظ بأيّ قوة عسكرية لديها، لا لأيّ اعتراض إقليمي ودولي على وجود إسرائيل في القطاع، ولا لتكبيل حرية حركة جيش الاحتلال في غزة، وهذا يعني أن حكومة الحرب وضعت “فيتو” شاملا يجعل من أيّ تهدئة يمكن التوصل إليها عملية مؤقتة، لا تلغي استئناف الحرب في أيّ لحظة.
تحاول حماس أن تتماشى مع تحركات نتنياهو المتوازية في مجال تشددها، وتأكدت أن استجابتها لأيّ ضغوط لتمرير الصفقة لن تسمح لها بتحقيق الحد الأدنى من المكاسب، وأبرزها استمرارها كرقم محوري في المعادلة الفلسطينية، لأن ذلك يؤكد أن إسرائيل والقوى التي تدعمها تعترف بخسارة الحرب.
يقين حماس من أن الصفقة الجاري العمل عليها ملغومة ولا يقل عن يقين نتنياهو منها وهو الذي يسعى بكل قوة لتعطيلها، فكلاهما يعلم أن وقف الحرب وهي على هذه الدرجة من السيولة معناه سقوطه من المشهد العام، وسوف يواصلان التشدد بلا انعطافة حقيقية تخوّل للوسطاء توقيع اتفاق هدنة مؤقت.
أصبحت مزايدات الصفقة بين نتنياهو وحماس الهدف منها التظاهر بالانتصار، فكل طرف ينتظر من الآخر تقديم تنازلات يمكن أن يستثمرها في الإيحاء بأنه حقق نصرا ماديا في موقفه، والمشكلة أن هذه المسألة يتم اختزالها في عدد الأسرى ونوعياتهم، وهي عملية مضنية، فنتنياهو يعلم أن خروج البعض من أصحاب المحكوميات العالية والأسماء السياسية الرنانة من سجونه اعتراف ضمني بالفشل، وقبول حماس بالإفراج عن كل ما لديها بلا تمييز بين مدنيين وجنود، سيفقدها أهم ورقة للمساومة.
ولا يهم نتنياهو التضحية بكل الأسرى والمحتجزين، بينما من مصلحة حماس تحقيق جزء معتبر من هدفها في هذا الملف، والذي يشير إلى تفوق معنوي، وتبدو حققت ما عجزت عنه حركة فتح، ويضمن لها مشاركة مهمة في أيّ معادلة للسلطة لاحقا عن طريق الانتخابات، والتي تمثل عقدة لإسرائيل التي تعترض على أيّ مشاركة سياسية لحماس ولو جاءت من خلال انتخابات، وهي تعلم أن كل المتطرفين المؤيدين لنتنياهو جاؤوا عن طريق انتخابات تتفاخر بنزاهتها، بينما تحرّمها على الشعب الفلسطيني.
الحقيقة الواضحة أن العلاقة بين إسرائيل وحماس غير قابلة للحياة، وإن كانت هناك فترة تعايش خفية حدثت، فالآن فقدت كل مبرّراتها، حيث تأكد قادة إسرائيل، ممن تساهلوا نسبيا مع الحركة، وفي مقدمتهم نتنياهو نفسه، أن وجود حماس في غزة أو غيرها، خيار محكوم عليه بالفشل، فالصفقة التي يعول الوسطاء للتوصل إليها لن تغير كثيرا في موقف إسرائيل، بقطع النظر عن استمرار نتنياهو أو اختفائه.
كما أن التعويل على ظهور إسحق رابين آخر يملك من الجرأة السياسية ما يمكّنه من القبول بالآخر الفلسطيني، والموافقة على دولة مستقلة بأيّ صلاحيات، يصعب العثور عليه في ظل حمّى التطرف التي تجتاح إسرائيل، فالحرب التي كان من المتوقع لها أن تفرز نخبة أقل تشددا سوف تقدم نتائجها نخبة أكثر تطرفا على الجانبين، لأن الأجواء العامة التي تسود إسرائيل جعلت الحد الأدنى من التعايش مستحيلا، والاحتجاجات التي تندلع ضد نتنياهو وتحمّله مسؤولية الأزمة الراهنة لا تنسحب على موقفه المتغطرس من الحرب أو تظهر غضبا لتدمير المدنيين في غزة.
يعلم نتنياهو ذلك جيدا، ويعلم أن تطرفه يزيده شعبية، فالقضية التي يتشدق بالدفاع عنها تمسّ مستقبل إسرائيل، والبحث من وجهة نظر سكانها عن الأمن الكامل، وهو ما تدركه حماس جيدا، فأيّ مرونة تبديها لن تنطوي على مكاسب أو تقلل خسائر، ومصيرها بات شبه منته من وجهة قادة إسرائيل، والذين تتزايد أزمتهم مع صعوبة ترتيب الأوضاع بعد توقف الحرب أو بعد التخلص من حماس، فالسلطة الفلسطينية مشكوك فيها، ولم يتم العثور على قيادة وطنية جديرة بإسناد المهمة إليها حتى الآن.
تشير هذه المعطيات إلى أن روافد الحرب مستمرة، وأيّ صفقة يتم التوصل إليها في باريس أو غيرها لن تفضي إلى تهدئة حقيقية، فغالبية الأطراف ستتعامل معها على أنها استراحة محارب إلى حين حدوث تحول جوهري يغير معادلة نتنياهو – حماس، التي تؤكد بعض التطورات أنها متواصلة، فكل طرف يحمل في جعبته من الأوراق ما يساعده على الصمود، وستبقى معركة رفح هي الفيصل والاقتراب من الحسم.
يعتقد قادة إسرائيل من أطياف سياسية عدة أن هذه هي الثمرة التي يبحث عنها نتنياهو ليؤكد تحقيق أهدافه في غزة، فهل تصمد حماس أم تخور قواها العسكرية تماما؟